التوقيت الأحد، 04 مايو 2025
التوقيت 12:36 م , بتوقيت القاهرة

ريفيو لفيلم قديم| الاختيار.. عن الإنسان والحقيقة

في إحدى المرات حكت لي الصديقة والسيناريست هالة الزغندي أن الراحل رأفت الميهي كان يسأل طلابه في الأكاديمية – التي كانت تدرس بها - ما هو السؤال الذي تود طرحه في فيلمك، السينما في منظور الميهي هي سؤال يشغل عقل ووجدان السينمائي، فيخرج على هيئة فيلم، وكلما كان السؤال حقيقي وراسخ في عقلية المبدع كلما استطاع التعبير عنه سينمائيا بشكل مختلف ومتميز، وفي رأيي أن أكثر تفسير لحالة الإبداع والمعاناة التي يعاني منها المبدع هي حالة أن يكون السؤال قد أصبح ملحا في عقله، وأن الأسئلة هي التي دفعت الناس للفن، في الفن وحده ستجد الأسئلة وربما أيضا تجد إجابة ترضيك، ولكن جميع الإجابات في الفن صحيحة، وجميعها خاطئة في آن واحد.


الكثير من الأسئلة


عام 1971 يقدم يوسف شاهين فيلم الاختيار، وقتها كان يوسف شاهين أصبح أحد صناع السينما المهمين من حيث التكنيك، ربما لن تجد في كل ما قدمه علامات هامة أو فارقة وقتها إلا فيلم باب الحديد عام 1958 أو الناصر صلاح الدين عام 1963 وربما صراع في الوادي عام 1954.


شاهين نفسه أحب دائما أن يقسم رحلته السينمائية إلى 4 مراحل، تبدأ مع فيلم بابا أمين عام 1950 لتنتهي مع فيلم انت حبيبي عام 1957، ومرحلة الحيرة والمحاولة تبدأ من باب الحديد عام 1958 لتنتهي مع فجر يوم جديد عام 1965، لتبدأ واحدة من أهم مراحل شاهين وهي مرحلة النضج والتفرد من الأرض عام 1970 وحتي اسكندرية كمان وكمان، وهي المرحلة التي يمكن أن تقسمها لمحطات عدة، لتبدأ المرحلة الأخيرة من المهاجر 1994 وحتي اسكندرية نيويورك 2004، متعمدا أن اسقط فيلمين من حساباتي الشخصية الأول هو بياع الخواتم عام 1965، والثاني أخر فيلم حمل اسم شاهين هو هي فوضى 2007، لأسباب ان الفيلمين بعيدا شديد البعد عن شاهين الذي أحببت سينماه.


شاهين في الاختيار يواصل ما بدأه في باب الحديد، يواصل الغوص في نفس بشرية تبدو على السطح هادئة ومستقرة بينما تحمل في جنباتها معاناة يأن الكون نفسه من حملها، الاختيار قصة عادية للغاية تحقيق يدور حول جثة مجهولة، التحقيق يقود المحقق فرج وزميله رؤوف ويقودنا معهما لأسئلة مهمة: ما هي الحقيقة؟ هل فعلا نعتقد أننا نعلم كل شيء عن أنفسنا؟، هل نحن ما نعتقده فعلا؟



"مالناش وجود إلا في خيال التانيين" جملة قيلت ضمن حوار الفيلم الذي كتبه شاهين، جملة تحمل محاولات إجابة على سؤال من نحن؟ مستغلا تيمة درامية مألوفة للجميع يدخل شاهين في دائرته، كمن يدخل متاهة للمرة الاولي ويدخلنا معه، من اللحظة الأولى يمهد شاهين أن نقع في حب محمود، المنطلق الفج، الواضح البوهيمي أحيانا، " ده باين عليه واد فتك"، هكذا وصفه رؤوف في بداية الفيلم.


المشاهد الأولى أو مشاهد التعريف بالشخصيات تعد أهم المشاهد في السينما، ليأتي السؤال هنا كيف يتعرف المشاهد على الشخصيات، شاهين لم يكن حتى في أضعف أفلامه ميالا للخطابة السينمائية، ولم يقع يوما في أن تتحدث الشخصية معرفة نفسها، أو تلقي معلومات على الشاشة بطريقة التلقين، عرفنا من هو سيد ومن هو محمود في مشهد منطقي للغاية مشهد جاف أيضا، مضاف عليه رأي رؤوف، بينما رؤوف نفسه وفرج نتعرف عليهم طيلة الفيلم.


فرج شخصية فاعلة ومفعول بها، ظاهريا يبدو متماسكا إلا أنه في الحقيقة هش قابل للكسر يجهل أكثر ما يعرف ويدعي ان ما يجهله غير مهم، فرج مرهق بالأسئلة، ولكن أسئلة عقله المحدود والمحصور في دوره كمفتش لا يعرف لها إجابة، وفرج لا يحتمل الأسئلة المعلقة، حتى وإن كانت تخصه هو.


أما رؤوف فيستسيغ، يبحث دوما عن إجابات يبحث عن معرفة حقيقية، معرفة بالكون، لذلك يحمل عقل يتقبل جميع الاحتمالات جميع الأفكار، ليس شرطا أن يتفق معها ولكنه لا يرفضها او يهاجمها، رؤوف باحث جيد، يعلم أن النفس البشرية أكثر تعقيدا مما يعتقد الجميع، لذلك يضعنا شاهين دائما مع رؤوف بالكاميرا في أي مشهد يوجد فيه رؤوف، إما اننا نرى من وجهة نظره، أو نراه في المشهد.


إيه هي الحقيقية يا محمود؟



مستخدما كل ما في السينما من لغة وحروف، يدخلنا شاهين إلى نفوس شخوصه، بالصورة والحوار والإضاءة، في لفتة تحمل كل ذكاء السينما تقريبا تقف شريفة بجوار صندوق في الميناء يحمل لفظة FRAGILE، أي سهل الكسر، تلك اللقطة تأتي لتبين أن بساطة وحيوية وحياة محمود الذي يصبح بفعل الظروف قريبا من شريفة، هي لقطة التحول في حياتها، سهلة الكسر شريفة نفسها شخصية سهلة الكسر، الغلاف الذي تحيط نفسها به سهل الكسر، كل شيء ينهار تصبح شريفة في معية محمود بعدما تقبل أن ترفض حياتها المجففة وتركب على ظهر حصانه " الدراجة البخارية" كأنه فارسها الذي أنقذها من وحش وحدتها وبؤس الحياة التي تعيشها.


نفس الطريقة يستخدم شاهين أضواء إعلانات الشوارع والانتقال من الأبيض للأحمر للأخضر للأصفر بشكل متتابع وسريع، على وجه سيد، ليبين مدى الصراع الدائر داخله حتى قبل ان يبدأ في كشف الأمور، من الإضاءة تدرك أن شريفة تخفي أكثر مما تظهر، تدرك ان سيد في حالة صراع محتدم وتدرك ان محمود حتى وإن بدا منفرا هو الوضوح.


نفس الذكاء السينمائي يستخدمه شاهين ليضع مشهد شديد الرمزية والعمق، حينما يروي سيد ان محمود كان دائما هو الأفضل، كلمات حوارية قليلة لنرى بعدها محمود وهو طفل يلقي بالكرة إلى سيد وهو في قمة أحلامه على كرسي الوزارة، والذي يخفيها خلف ظهره، فيأخذها مساعده ويلقيها داخل خزانه، لتعود لمحمود الذي يلهو مع الأطفال في مكان مفتوح وواسع، سيد يخبئ بداخله محمود، في خزينة يعلم انها سهلة الفتح، يخرجه وقتما يريد، سيد بداخله محمود، حتى قبل أن يكشف لنا شاهين تلك الحقيقة بشكل كامل.



بينما محمود هو محمود، الشخصية الأصلية الحقيقية، محمود يحمل فلسفة خاصة ومنطق خاص في الحكم على الأشخاص و الأشياء، ربما المشهد الأكثر تداولا ومشاهدة، وهو احد اهم مشاهد الفيلم، وأكثرها ثراء بالحوار، هو مشهد التعريف، حينما يلقي محمود فلسفته على السكارى من عالمه، يعرف شاهين الحقيقة كمحاولة للإجابة على لسان محمود أن الحقيقة " الإخلاص للنفس أولا" بينما البحر " هو أخر ملاذ من حمورية الناس" بينما الحرية " ان تكون عبد للحقيقة بس" بينما الحب " أنا الذي أحبك فأنا المدين بكل شيء" ولكن هذا التعريف الوحيد الذي يقدم بوجهات نظر مختلفة، بهيه لها نظرتها ووجهتها، بينما الفتاة "مديحة كامل" لها نظرتها، أي أننا إذا بفرض اجتمعنا على كل التعريفات السابقة، فالحب فقط هو العاطفة الوحيدة التي يعرفها كلا منا على حدا، وكل تعريف صائب.



شاهين في هذا المشهد يقدم معالجه بصرية مبدعة لحوار يحمل من الأفكار ما يفيض، الحقيقة يكون البحار ظهره للحائط، حيث لا مفر والإضاءة واضحة كاشفة، والبحر مهما اتسع ينتهي فيكون وجه محمود بين فتحات دفة مركب معلقة على الحائط، محصورا كمركب بين شاطئين في إضاءة تشبه البحر من رقتها ولونها، بينما الحرية ينطلق ليقف خلف شباك يشبه السجن وإمعانا في تأكيد توصيل المعنى، تجد اسفل الشباك رقم "375" هو رقم مثل أي رقم لا يحمل دلالة، ولكنه مع التكوين يحملك إلى ان محمود الذي يعرف الحرية هو الأخر مسجون، فكأنما خشب "المشربية" فتحه في باب زنزانة تحمل رقم "375"،  أما الحب ، هنا يخرج محمود من زنزانته ليتحرك في مساحة أوسع قائلا تعريفه، وهو تعريف افلاطوني شديد المثالية وأيضا الضيق، لتدخل بهية فتضيف تعريفها الذي يحمل مساحة أكثر اتساعا من تعريف محمود بينما الفتاة تطير وتتحرك لتعطي تعريفا واسعا خالطا بين الحب و الرغبة والجنس في مساحة أوسع، الحب هنا أعم وأشمل.


واللي يسأل ما يتوهش



محمود يكسر التقاليد ويخرج عليها، بينما سيد يسير مرغما داخل هذا البرواز، يحاول أن يحطمه ويخرج عنه وعليه، يحاول هذا من شخصية محمود، بينما شخصية شريفة هنا، هي ضحية بين الحياة وتقاليدها ورغبتها، هي الحيرة إذا كان للحيرة شكل، هي أصل الصراع ومنتهاه، سبب صراع محمود الأساسي، وسبب موته وسبب في تحول سيد الفعلي، أو ظهور مرضه بشكل واضح، شريفة هنا ضحية حقيقة رغم كونها سبب، لا تملك إلا أن تتعاطف معها أن تحبها، كما تحب النموذج الانثوي الاخر بهية قمر، التي تعطي هي الأخرى دون حساب أو انتظار لرد، فهي العاشقة كما تعرفها الأساطير تكتفي بما يعطيه لها معشوقها، ولا تطالب أو تنتظر المزيد.


شاهين استطاع وبجدارة أن يوظف ممثليه كل واحد وفق دوره، ليقدم ظهور جديد ومختلف جدا عما سبق، سيف عبد الرحمن أو "سيف الدين" مختلف عن دوره في "فجر يوم جديد" هنا تشاهد سعاد حسني كما لم تشاهدها بالفعل من قبل، عزت العلايلي، يقدم في رأيي أفضل أدواره وأكثرها تعقيدا، حتى هدى سلطان في بهية قمر غير تلك الممثلة الجبارة التي نعرفها في أي فيلم سابق، كل هؤلاء استطاع شاهين أن يدخلهم الى الشخصيات، ان يوجههم ويقودهم بإتقان ودقه ليصل معهم إلى مرحلة تقترب بشكل كبير من الكمال.


أما محمود المليجي، فاعتقد بشكل كبير أن شاهين جاهد في السيطرة على تلك الطاقة الفنية غير المحدودة التي تتحرك أمام الكاميرا، المليجي عينه فقط تحتاج إلى كاميرا مسلطة عليها طيلة المشاهد، يدخل إلى شخصيته من أدق وابسط التفاصيل، يخلق لها عالم غير مكتوب في السيناريو، يجعلنا نتفهمها، حتى وإن لم نتعاطف معها، يجعلنا نحبها إذا أراد، ولكن مليجي شاهين كان مليجي النضج الكامل، وجه اخر استطاع شاهين ان يخرجه من محمود المليجي ظهر بشائره في الناصر صلاح الدين، وازاح الستار عنه في الأرض، ليكمل تلك الرحلة في الاختيار وعودة الابن الضال واسكندرية ليه؟ وحدوته مصرية، مليجي شاهين حقا مليجي مختلف، مع شاهين يتحرك المليجي بطاقته القصوى، ليصبح هذا الممثل الذي لا يجاريه أحد.



كل تلك الشخصيات تسبح في عالم مرئي شديد الجمال والعمق عالم خلقه شاهين وساعده فيه أحمد خورشيد مدير التصوير وصلاح جبر مهندس الديكور ورشيدة عبد السلام المونتيرة، وجعله أكثر حقيقة وقربا، موسيقى وضعها بإتقان وتفهم شديد لكل هذه الشخصيات والأسئلة المطروحة في الفيلم، العبقري على إسماعيل.


من أشد نقاط الفيلم قوة هي موسيقي على إسماعيل، بداية من الصفارة التي تشبه صفارة النداء في البحرية، إلى التداخل بين الشرقي والغربي في الموسيقي، موسيقى صراع، يفتتحها بصفارة تجذبك كأنها نداهه، لتأخذك إلى أعماق ربما لم تفكر للحظة أن تدخلها، تأخذك في رحلة بالمعني الحرفي للكلمة رحلة عرفها شاهين ومحمود أنها طويلة وفي أخرها يقابل الإنسان ما هو أبشع من الشيطان، في نهاية الرحلة يقابل الإنسان نفسه، وكأن شاهين يجيب على أحد اسئلته المفضلة، لماذا نحيا؟ وما نهاية كل هذا؟ ان تحيي في رأي شاهين لتعرف نفسك، فقط ولكي تعرف عليك بالتجريب أو السؤال "واللي يسأل ما يتوهش".