ثنائية الضحك بين الجد والهزل


قد يستغرب البعض عنوان المقال متسائلا: ما معنى أن يقع فعل "الضحك" بين الجدِ والهزلِ؟ هل يُمكن أن يكون هناك ضحك جدي؟ هل يضحك المرء لأسبابٍ أخرى غير الهزل والسخرية أو عند الشعور بالسعادة أو سماع قول طريف أو نكتة؟
أعترف هنا أن الموضوع عكس ما يظن الجميع، شائك بالفعل.. لدرجة أن علّامة عظيم وأديب مُخضرم مثل "أمبرتو إيكو" أعلن في مقابلة صحفية، أنه لا يزال مترددًا في تأليف كتاب عن الفكاهة والضحك، وذلك لصعوبة الموضوع وتعقيده.
المسألة أكبر من مجرد وصف فعل يمارسه السواد الأعظم من الناس في حياتهم اليومية، بل وقد يصل إلى حد المنافسة في أيهم أفضل في استخراج ضحكات من الآخرين. لأن في كثيرٍ من المجتمعات وعلى رأسهم المجتمع المصري، ينظر البعض أن من ينجح في إضحاك الآخرين أكثر من سواه هو شخص ذكي وحاضر الذهن وبالطبع محبوب من أقارنه؛ لأنه يُدخل السرور والسعادة على قلوبهم، ويبعث في دواخلهم البهجة.
إن كل هذه المرادفات في الثقافة العامة مرادفة لفعل الضحك.. بل أن بعض الأعمال السينمائية أو التلفزيونية أو الأدبية قد تنجح جماهريًا؛ لأنها استطاعت أن تُضحك الجمهور، رغم أن المحتوى الفني قد يكون فارغ المضمون أو شديد السطحية.
وفي الذهن المصري والعربي التقليدي أن كلمة مسرحية تعني بالضرورة عملا كوميديا، يبعث على الضحك.. غير عالمين أن المسرحية أو المسرح "أبو الفنون"، هو أرض أكثر خصوبة وأشد تنوعًا لألوان من الفن تتعدى بمراحل مجموعة ممثلين يقفون على أرضه، ليقدمون ملهاة تثير الضحك في نفس المتلقى. بل أن بداية المسرح نفسه على يد الإغريق من أمثال سفوخليس ويوربيديس، لم تكن كوميدية بالمرة بل كانت تراجيدية بحتة.. ثم جاء بعدهم أربستوفان ليدشن المسرح الكوميدي.
إلى هنا وحتى اللحظة يبدو أن السياق لا يزال يدور حول أن فعل الضحك هو مرادف للملهاة، إلا في حالات التراجيديا وهذا شيء معروف.. الواقع أن السبب الرئيسي لكتابتي المقالة هي موقف حدث لي منذ يومين، وجميعنا قد مر به بالتأكيد أكثر من مرة، كنتُ ومجموعة من الأصدقاء مستغرقين في الضحك، لسبب أو لآخر، حتى دمعت عيوننا، ثم وبشكل تلقائي قال أحد الأصدقاء "اللهم اجعله خير"، فنظر لي أحد الأصدقاء متسائلا: "لماذا نردد هذه الجملة كثيرا عندما نستغرق في الضحك لوقت طويل وبشكل عميق؟" هل نتشائم من الضحك وهو المفروض تعبير عن سعادة مطلقة؟ هل نشعر بالذنب لأننا ضحكنا كثيرا وكأننا نتوجس خيفة أن نهاية الضحك كارثة ما؟ أو كأننا ارتكبنا بضحكنا إثمًا يستحق أن نستعيذ بالله بعده.
تذهب الكثير من الأقوال إلى أن كثرة الضحك تُذهب الهيبة، وأن بعض الأدباء مثل توفيق الحكيم أو بعض الفلاسفة مثل نيتشه يُشاع عنهم أنهم كانوا لا يضحكون، أتكلم بالطبع عن فعل الضحك وليس عن الابتسامة. إذا كان الضحك هو مرادف للسعادة فلماذا برز الجدل إذًا، هل الضحك فطرة عادية أم شهوة متطرفة تُذهب العقل وتلغي القدرة على التمييز وقد يستعملها البعض في كيد الآخرين ؟
لقد تحدث الفيلسوفان الألمانيان "ماكس هوركهايم" و"ثيودروف أدورنو" في كتابهما "جدل التنوير" عن الضحك كعلامة للعنف، وعلى اقتحام الطبيعة العمياء والقاسية، ففي الضحك تعي الطبيعة العمياء نفسها وبذلك يتخلص من كل عنف.. بل لقد ذهبوا أن الضحك قد يرتبط بشعور بالذنب كما سبق وأشرنا.
بإمكانك إذًا أن ترى شخصا شريرا غير سوي يضحك متشفيًا أو شامتًا بعد ارتكابه مذبحة رهيبة في حق بعض الأبرياء، وبهذا يصبح الضحك فعلا للعنف والشر كما أشار الفيلسوفان.
قد يرتبط الضحك أيضاً بالخوف أو الذعر الشديد.. فكم من مرة نضحك فتصيبنا هيسترية ضحك بعد موقف أوقع الذعر في قلوبنا، وكأن الضحك في هذه الحالة هو تفريغ لحالة الخوف التي التبستنا.
ويحمل لنا الأدب قصصا تنتزع منا الضحك رغم سوداويتها المطلقة مثل قصة "نجوم بوب" لإدجار آلان بو .. فالقصة الساخرة جدا والتي تدفعك في كثير من الأحيان إلى الضحك يغلفها جو كابوسي خانق، وسوداوية مشحونة بكآبة، بحيث إذا اخترقت مستواها المضحك وتوغلت فيها ستختنق ضحكاتك، لأنك ستشعر على الفور أنها سخرية مريرة وقاسية ومملوءة بالشجن. وهذا ما دفع النقاد إلى تصنيف القصة "بمزاجية" لأنك لا تستطيع أن تقول عنها كئيبة بشكل مستريح ولا مُضحكة بشكل مستريح.
وهذا الكلام يدفعنا إلى الضحك المشوه.. والذي نجده في الأعمال التي يُطلق عليها "جروتسكية"، وهي مصطلح غربي يصعب ترجمته إلى العربية فيتم استعماله كما هو .. ويتلخص في جعل الأشكال المشوهة والغريبة بطلة العمل الفني، أو كما يقول فيكتور هوجو "إيجاد الجمال في ما هو قبيح"، ما يهمنا في الجروتسكية هو استعمال الضحك كعلامة تشوه واضحة.. في أعمال قوطية كثيرة تجد رسومات ومنمنمات تماثيل، تضحك وقد بدت الابتسامة العريضة لدرجة أنها تصل من الأذن الى الأذن مع صف أسنان لامع وواضح يظهر بشكل غريب ومنفر، باعثة بضحكتها الرجفة في القلوب.
وتلقى فيكتور هوجو هذا التشوه وكتب بسببه رائعته "أحدب نوتردام"، كان فيها البطل قزما أحدب مشوها.. ثم في خطوة أكثر سوادوية، ومرتبطة بالضحك المشوه، كتب الرواية الرائعة "الرجل الضاحك"، وفيها بطل الرواية مهرج لديه عيب خلقي، يجعل وجهه مبتسم ابتسامة عريضة طول الوقت حتى في لحظات بكائه نرى الابتسامة المشوهة على وجهة.. هذه الرواية القطوية المظلمة قدمتها السينما التعبيرية الألمانية في فيلم لا يقل سوداوية عن الرواية ويحمل نفس الاسم "الرجل الضاحك" إنتاج 1928 ومن بطولة كونراد فديت وإخراج بول لين.
ودشن الفيلم الصورة الأيقونية للضحكة العريضة المشوهة، والتي أوحت لبوب كين وبيل فينجر مبتكري شخصية "الرجل الوطواط" الشهيرة، بشخصية "الجوكر" عدو الرجل الوطواط الأشهر.. فاقتبسوا قلبًا وقالبًا لشخصية الرجل الضاحك كما ظهرت في الفيلم، وبالتالي دشن بدوره مصطلحا أدبيا وسينمائيا اسمه "الضحكة الكئيبة".
وعلى نفس المنوال عن الضحك المُرعب لا ننسى كلمة الممثل الأمريكي لون تشاني : "من الممكن أن نضحك على المهرج ونحن في السيرك وسط الناس وتحت الأضواء، لكن ماذا سيحدث إذا فتحت باب بيتك بعد منتصف الليل ووجدت نفس المهرج يقف أمامك في الظلام؟".
وفي نهاية كلامنا عن ثنائية الضحك الغريب لا ننسى شخصية تبرز بقوة، ومن أعماق تراثنا، وهي شخصية جحا الحكيمة الفيلسوفة والساخرة، فرغم أن جحا يرتبط في أذهاننا بالضحك والنكت والملهاة.. إلا أنه يخفى عنا الخلفية الحقيقية لشخصية جحا الحكيمة الساحرة. فعندما تضحك تنسى أو لا تنتبه أن جحا كان حكيما فيلسوفا، وخلف كل حكاية مضحكة تقف سخرية قاسية من السياسية والحكام والمجتمعات، وجحا تعبير عن العقلية المصرية التي تخلق الضحك في أحلك الأمور السياسية والاجتماعية.
والسؤال هل هذه المقالة ضد الضحكة؟ هل تحاول أن تظهر لنا الضحك كفعل ضار أو مشوه ؟ هل لو أراد شخص أن يتصنع العمق أو الهيبة أو يبدو أكثر نضوجًا بأن يكف عن الضحك وأن يبقي وجهه جامدأ بلا أي انفعال؟
في الواقع لا.. هذه المقالة تحاول فقط أن تضع الأمور في نصابها الصحيح.. وأن تبين أن الضحك فطرة جميلة يجب أن نحافظ عليها باعتدال، فلا نفرط فيها فنقع في دائرة الإسفاف وقلة القيمة ولا نقطعها فنفقد قيمتها المُشرقة البراقة.. الاعتدال والرؤية العاقلة الصحيحة هي المقصد والمنتهى.
إضافة
في حديث سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: "لا تكثروا الضحك فإنّ كثرة الضحك تُميت القلب " قال: "لا تكثروا" ولم يقل "لا تضحكوا"، وفي الواقع نقلت لنا الحكايات أن سيدنا محمد كان يضحك مع أصحابه ويمازحهم.. حتى سيدنا عمر بن الخطاب الذي عرف عنه الصرامة، شوهد أكثر من مرة وهو يضحك.. كذا الحال مع بقية الأنبياء، رغم الجدل في أن كثيرا من الأنبياء كانوا لا يضحكون فإنّ هناك قصصا كثيرة وشواهد أنهم كانوا يضحكون.
يحضرني منها قصة ذكرها ابن كثير في "قصص الأنبياء"، أن سيدنا عيسى وسيدنا يحيى تقابلا ذات مرة، وكان الأول يضحك والثاني صامت عابس، فحثه سيدنا عيسى على الضحك.. الكل كان يضحك والكل كان يبحث عن الضحكة حتى في أحلك الظروف، وهذا قد يكون التأويل الحقيقي للمقالة، فقط علينا أن نعرف متى نضحك وكيف نضحك ومتى نحافظ على هدوئنا وتوازننا.