التوقيت الثلاثاء، 30 أبريل 2024
التوقيت 07:12 ص , بتوقيت القاهرة

علي سالم .. الكاتب الرجيم

هل لي أن استلهم الأناجيل وأقول: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح المثقفين كلهم وخسر نفسه" بل ماذا يفيده لو أنه كسب نفسه وخسر استقلاله، بل أزيد فأقول ماذا ينفعه لو كسب استقلاله وخسر الحقيقة، ماذا يبقى من الكاتب غير أفكاره الأنيقة، وكاتبنا رجل باع كل شيء في سبيل فكرة، في سبيل شرف كلمته، بل يمكن أن يقول المرء دون أن يرتعش قلمه أنه كان ذبيح "الشجاعة الأدبية" نفسها، وأنه لا يقل قطميراً واحداً عن مفكرين أفذاذ نذروا أنفسهم لإخراج مصر من السُبات الدوجمائي – والمصطلح لكانط-  الذي مازال المجتمع غائراً فيه حتى مرفقيه، غير أن مهمته - على عكس من سبقوه - كانت في حقل السياسة الحافل بالألغام، كان حاذقاً في ترويض السياسة بالكوميديا، والتغريد خارج السرب، بسبب موقفه من السلام مع إسرائيل، وزيارته لها عام 1994،  وهذه الجرأة التي سيم بها والتي جلبت عليه وبالاً كثيراً وحصاراً مجتمعياً، هي التي صنعت منه شخصية جدلية ذات كاريزما آسرة. فكان محطم تابوهات برتبة مارشال، لم يسجد للجماهير المنتشية بالأكاذيب، ولا اليسار الذي يعيش وراء التاريخ، كان بمثابة القديس أثناسيوس المعروف بصلابته في مواجهة خصومه وقيل فيه المثل الشهير "أثناسيوس ضد العالم" وسأسمح لنفسي باستدراك طفيف للمثل دون أي افتئات على الحقيقة ليكون " علي سالم ضد العالم" ضد الدوجمائيين وأصحاب السيوف الخشبية وفرسان المقاهي، ضد المثقفين المشعوذين والذين لا يتقنون سوى المفرقعات الكلامية.


 هذا هو علي سالم، الرجل الذي بدأ حياته كاتباً مسرحياً وحقق نجاحاً عريضاً بمسرحية "مدرسة المشاغبين" وانتهى به المطاف إلى أن صار نبياً لليبرالية في بلد لا كرامة فيه للأنبياء، فخسر النجاح الذي بدأ به مشوار حياته وإن كانت خسارة هينة في سبيل شرف المطمع. تطاول عليه سفهاء كثيرون وأوسعه اليسار رجماً بالتخاذل والانبطاح تارة و الخيانة والعمالة تارة أخرى لكنه ظل صامداً رابضاً على موقفه وعينه مسلطة على المستقبل الذي يعلم تمام العلم أنه سينصفه.


لقد أتيح لي أن أعرف ذلك الرجل عن كثب، ولم أجد فارقاً بين علي سالم كما هو في الإعلام وعلي سالم كما هو في كتاباته وعلي سالم في الواقع، كان بشوشاً والنكتة لا تفارقه، يعرف كيف يستغل مداعباته الرشيقة في تسويق وجهات نظره، كان يتمتع بذكاء لا يشوبه غرور، وكان يعرف كيف يصمد في الجدال دون أن ينجرف إلى مصارعة كباش، لم يخسر مناظرة واحدة في حياته؛ لأنه كان شأن أي مستنير لا يعتنق إلا الأفكار التي تصمد أمام التجربة، يتوجب أن أسجل أيضاً ملحوظة هامة وهي أن علي سالم كان مثل فلاسفة الإغريق؛ لديه قدرة خارقة على استنتاج أفكار مبهرة من معلومات قليلة، وأنه كان شخصاً دمثاً لأبعد الحدود ولم يكن لديه أي ضغينة تجاه أي شخص في أركان العالم الأربعة.  


كرهه المثقفون الذين يكيلون بمكاييل قوم شعيب؛ لأنه مُطبِّع، لكنهم لم يكرهوا أنيس منصور رغم أنه كان أكثر تطبيعاً منه، تبرأت منه النخبة المزيفة لكنها لم تجرؤ أن تتبرأ للسبب ذاته من حسين فوزي ولا طه حسين ولا يوسف السباعي ولا يحي حقي ولا نجيب محفوظ ولا توفيق الحكيم ولا مراد وهبة ولا عازف البيانو رمزي يسى ولا عازف الجيتار عمر خورشيد وغيرهم ممن أيدوا التطبيع.


 هل هو كيل بأكثر من مكيال إذن أم أن الأمر أكبر من ذلك؟ في الواقع إن الأمر ليس فقط أكبر من ذلك بل وأقدم من ذلك أيضاً، فهو شر قديم من ترسبات عصور الخازوق وصيد الساحرات؛ وهذا ما يشهد به التاريخ. إن المفكر إذا أطلق العنان لتفكيره أصبح مزعجاً للمجتمع، التفكير الحر هنا يصبح تحرشاً بالثوابت، وعلي سالم كان شجاعاً وصريحاً حد الإزعاج. لقد أحرج اليقين الطمأنيني لسياسة المجتمع، لقد خلخل أهم شرط يقوم عليه استقرار المجتمع المغلق: وجود عدو. إن الهمج دائماً بحاجة لعدو لكي يوحدهم، العدو شرط أساسي للاستقرار فهو أفضل مشجب لتعليق كافة الإخفاقات، ومن الطبيعي بل والتاريخي أن يقاوم المجتمع هذه الأفكار بمنتهى القسوة. وهنا يكون الاختبار في مدى ثبات الكاتب أو المفكر على موقفه، وفي حالة علي سالم نجد نموذجاً عز ضريبه في تاريخنا الحديث، لمفكر يظهر هذا القدر الكبير من البسالة في صراعه ضد الأفكار الرجعية و سدنتها من حراس "الوضع الراهن" في ظل تخاذل مخزٍ ممن يطلقون على أنفسهم لقب "النخبة". لم يخش في الحق لومة لائم ولا بطاقة نقابة ولا عضوية "اتحاد كتاب"، كان يعرف أن التعامل مع الغرب مؤشر لا يخيب في تقويم مدى صحة المناخ السياسي وفرص ازدهاره، وكان يدرك أيضاً أن القضية الفلسطينية أصبحت أفيوناً جديداً يهدد الأمن القومي المصري؛ لذلك فهو لا يقل عن أي قامة من قامات النهضة التي كرزت بالتنوير؛ لأنه تخصص في مكافحة دوجما اسمها القضية الفلسطينية.


 وتاريخياً كان كلا جوردانو برونو وجاليليو جاليلي يعرفان أن الأرض ليست مركز الكون، جاليليو آمن بالصواب ونافح دونه لكنه عند الاختبار الأول تغلبت فيه غريزة البقاء على فضيلة الشجاعة؛ فداهن الكنيسة والجماهير المنومة مغناطيسياً، لكن جوردانو برونو ثبت قبله على موقفه فكان أن راح ضحية الحقيقة، وما أكثر ضحاياها في تاريخ التنوير. وفي الواقع فإن علي سالم من ذلك النوع الذي رفض أن يلعب دور جاليليو وآثر أن يلقى مصير برونو الذي نصره المستقبل في النهاية، بينما قنع غالبية النخبة بعدم إزعاج المجتمع في هذا التابو (التطبيع) بعضهم احتفظ بوجهات نظره بين جدران أربعة، وبعضهم الآخر فضل نقل ساحة المعركة إلى الدين والحريات.


أذكر أنه عندما كان يسألني أحد عن أهم المفكرين المعاصرين الذين أنجبتهم مصر حسب رأيي كنت أذكر منهم خمسة: أحمد لطفي السيد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي ومراد وهبة وعلي سالم. وكان ذكر علي سالم ضمن هؤلاء يثير دائماً صدمة لا تخلو من اعتراض على اعتبار أنه لا يرقى لصف هذه الإنتلجنسيا، وهذا الاعتراض مرده سببان؛ الأول أن علي سالم حكم عليه بالسجن المؤبد في زنزانة اسمها "التطبيع مع إسرائيل" - بعبع المصريين الأبدي– وتضخم الأمر بصورة كبيرة حتى تحول علي سالم نفسه إلى كناية عن التطبيع، والسبب الثاني وهو الأكثر وجاهة أن اهتمام علي سالم بتأمين معيشته مادياً جعله يتنازل عن اضطلاعه بدور المثقف الصارخ في البرية معظم حياته وهو ما انعكس على كمية وكيفية إنتاجه الأدبي، لكن الحقيقة أن علي سالم كان مفكراً مهماً ولكن مع الأسف كان من هذا النمط الـ posthumous ؛ الذي يولد بعد وفاته، كان سابقاً لأوانه في مجتمع كان أكثر تخلفاً من أن يدرك هذه الحقيقة.


أذكر في المرة قبل الأخيرة التي اتصلت به فيها للاطمئنان عليه في أوج صراعه مع المرض أنه كان في حالة نفسية سيئة للغاية وكان يشكو لي أن أحداً لم يعُدْه أو يزُره؛ تعامل معه أنصاف المثقفين مثلما يعاملون مرضى الجذام، لم يبق حوله سوى صفوة من خلصائه ظلوا حتى اليوم الأخير معينه الوحيد الذي يقاوم به في أيام الجمعة في فندق كارولينا بالمهندسين – حيث يجتمع بهم - مرارة الحكم بالنفي الذي أصدره ضده المجتمع وصدقت عليه النخبة، حتى الإعلام في الفترة الأخيرة التي سلط عليه الضوء فيها كان يستضيفه بغية استغلاله في الإثارة؛ فقط كان يستخدمه على اعتباره الضيف الـ "نوال سعداوي" الذي يمكن أن يصنع منه حلقة مثيرة، دون مراعاة لأفكاره وآرائه وتحليلاته في أمور أخرى غير التطبيع. كان علي سالم من أهم النماذج الليبرالية المعاصرة، كان ليبرالياً قولاً وعملاً لا إدعاءاً مثل أغلب "المتلبرلين" في هذه الأيام، وكان برجماتياً من طراز نادر والبرجماتية سبب أغلب مواقفه السياسية وعلى رأسها موقفه من إسرائيل وهذا أيضاً كان سبب الخلاف الطفيف بيننا بشأن إسرائيل فقد كان تأييده لأسباب برجماتية بينما في حالتي كان لأسباب تاريخية لكن في النهاية كان من الشخصيات القليلة التي يحب أي ليبرالي أن يجلس معها ويستمتع بالحديث إليها كان مثقفاً مطلعاً مستنيراً واسع الحظيرة وثيق الحجة سديد البرهان حاضر الذهن صبور للجدال حليم عند الاختلاف لا يحب الاستعراض مثل كثيرين، وكان أيضاً لطيف الطباع متواضعاً ودوداً للغاية عملياً وذكياً كأغلب الدمايطة ناهيك عن خفة ظله التي لا يتخاصم فيها منصفان، كان يعرف كيف يلبس الحكمة قميص النكتة على غرار نجيب محفوظ.


وإن عزائي الوحيد الذي يبقى من الرحيل المهيب لهذا المحارب الذي أثخنته المعارك دون أن تنكس رأسه، أنه على الأقل لن يدفن في مقابر المزيفين ولن يحشر مع الرعاع، وأنه على الأقل آثر "العزل الثقافي" على الانسحاق تحت حوافر الجماهير، ليبقى السؤال معلقاً في الفراغ: هل سيشهد هذا الجيل اليوم الذي سيصير فيه علي سالم أيقونة؟ مثلما تحول فرج فودة ومن قبله علي عبد الرازق وقاسم أمين .. إلخ إلى أيقونات؟ لا أملك جرأة الإدعاء ولكني مع ذلك لا أحرم نفسي طلاوة الأمل.