دستوبيا المراهقين تطحن الكبار في شباك التذاكر


مصطلح دستوبيا اليوناني لم يحظَ حتى سنوات بسيطة مضت بشهرة نقيضه يوتوبيا في الأوساط الأدبية. وكما خمنت من كونه نقيضا للعالم المثالي المتكامل المتحضر الخالي من المشاكل والنزاعات، فهو مصطلح يشير إلى عالم مأساوي يعاني العديد من الكوارث، وتتجرد فيه المجتمعات من التحضر السلوكي، في ظل فوضى تامة، أو حياة تحت سيطرة أباطرة وحكومات شمولية.
أعمال الدستوبيا الأولى من وجهة نظر أغلب نقاد الأدب، تتضمن رواية عالم جديد شجاع Brave New World لـ "ألدوس هكسلي"، الصادرة عام 1932، عن مجتمع شبه آلي تمت هندسته نفسيا، ليفقد سماته العاطفية والبشرية.
البعض الآخر يشير إلى رواية 1984 الشهيرة لـ"جورج أورويل"، الصادرة عام 1949 والتي كتبها رفضا لانتشار الفكر الشيوعي ودولة الحزب الواحد، عن حكومة شمولية قمعية، نجحت في مراقبة البشر إلى درجة انتهت معها الحرية والخصوصية للفرد تماما.
شخصيا أعتقد أن "هـ. ج ويلز" سبق كلاهما بروايته آلة الزمن الصادرة عام 1895 التي تخيَّل فيها عالم مستقبلي مظلم تم فيه تقسيم البشر لنوعين متناقضين.
الروايات الكلاسيكية الأخرى تتضمن فهرنهيت 451 Fahrenheit لـ"راى برودبيري"، الصادرة عام 1953 عن عالم مستقبلي تمنع فيه الحكومات القراءة والاطلاع وتحرق فيه الكتب، البرتقالة الآلية Clockwork Orange لـ"أنتوني بيرجس" الصادرة عام 1962 عن عالم مستقبلي تحاول فيه الحكومات حل مشاكل وسلوكيات الإجرام والعنف، بتجارب تؤدي إلى ما هو أسوأ.
كل هذه الأعمال تناولتها السينما (أحيانا أكثر من مرة). وبعضها تتفوق أفلامه على الأصل الأدبي من حيث الشهرة، مثل فيلم المخرج ستانلي كوبريك عن Clockwork Orange
على كل بعيدا عن الخلاف عن نقطة البدء، فمصطلح دستوبيا مر مؤخرا بطفرة رهيبة في الأوساط الأدبية والسينمائية، بفضل رواية ألعاب الجوعى The Hunger Games للمؤلفة "سوزان كولينز" الصادرة عام 2008 التي تربعت على عرش المبيعات، وتحولت إلى سلسلة سينمائية لاحقاً لا تقل نجاحا.
أحداث الرواية في عالم مستقبلي عن المراهقة الفقيرة "كاتنيس إيفردين" التي يتم اعتبارها في حكم الميت، عندما تقرر مضطرة إنقاذ أختها بالمشاركة في مسابقة سنوية تليفزيونية دموية بين دستة من المراهقين، لا تنتهي إلا ببقاء واحد فقط حيا. الرواية تلاها جزءان آخران لاستكمال الأحداث.
أطلق نجاح الثلاثية عشرات من السلاسل التي تتبع نفس الخط. لاستقطاب نفس الجمهور والشريحة العمرية، فيما يطلق عليه حاليا "دستوبيا البالغين الصغار" أو Young Adult Dystopian. مع ملاحظة أن التعريف العمري للسن موضع خلاف. التعريف الأكاديمي يحدد البالغين الصغار من (12 - 18 سنة)، والمختصين بهذا النوع من الأدب يعتبرونه موجة للشريحة من (16 - 25 سنة).
ضاعف النجاح أيضا من حجم مبيعات الأعمال الكلاسيكية القديمة السابقة الذكر، وبعض الأعمال الأخرى الصادرة في التسعينات. المانح مثلا أو The Giver الصادرة عام 1993 لـ"لويس لوري"، عادت من جديد لقوائم المبيعات المرتفعة. وأنتجتها هوليوود في 2014 في فيلم بنفس الاسم، شارك فيه نجمان في وزن "ميريل ستريب" و"جيف بريدجيز".
إعلان The Giver
أفكار هذا النوع من الروايات تمزج فكرة "الدستوبيا" باحتياجات واضطرابات هذا السن عموماً، وسماته في المجتمعات الغربية بالأخص. ستجد فيها مثلا علاقات حب حائرة للبطل أو البطلة مع (طرفين). وهو ما يتناسب مع المراهقين وتقلباتهم في مراحل الثانوي بخصوص العلاقات العاطفية.
ستجد أيضا نموذج سلطوي قمعي (حكومات أو عائلات)، يمثله باستمرار كبار في السن، كمعادل للعلاقة بين المراهق الذي يبدأ عادة في هذا السن البحث عن استقلال حقيقي، من سيطرة الأبوين.
في أغلب هذه الأعمال، المجتمع مُقسم إلى نوعين أو أكثر، والتفرقة عادة مرتبطة بالثراء. مصير الإنسان يحدده الآخرون مسبقا. تُخاطب هذه النقطة إحساس أصحاب هذا السن، بانعدام العدالة الناتج من توالد شخص لأسرة فقيرة وآخر لأسرة ثرية. والملاحظة الأهم أن أنجح الروايات كتبتها إناث، والشخصية الرئيسية فيها أنثى. وعلى صعيد المبيعات والأرقام، فإن الإناث أيضا الأكثر قراءة لها.
البطلة الأنثى نقطة تستقطب الجنسين. الإناث يشعرن بالرضا والمساواة - وأحيانا بالتفوق - مع وجود بطلة تقوم بما لا يفعله أغلب الرجال حولها (مواجهة الشر والانتصار عليه بامكانياتها العضلية والعقلية). والذكور تحب الفاتنة التي لا تنسى في زحمة انتصاراتها، أنها في حاجة لرجل تعشقه، مستعدة للتضحية من أجله.
مشهد من Divergent
التجاهل الذي يشعر به أصحاب هذا السن من أقرانهم في المدارس والجامعات، يتم مخاطبته هنا بفكرة البطل/البطلة الذي لا يلفت الأنظار عادة في بداية الروايات، كشخص مميز قادر على فعل شيء، لكن بمرور الأحداث، يتضح أنه المميز والأعظم على الإطلاق وسط البشر كلهم، لدرجة تجعله محطة تغيير وإنقاذ للمجتمعات حوله. يبدأ عادة بإنقاذ وتحرير مجموعة صغيرة (عائلته أو أصدقائه أو قريته). ويواصل الانتصارات حتى يحقق هذا للعالم كله. يتم هذا عادة بشكل متسلسل في ثلاثية روائية.
إدمان فكرة (أنا الضحية والكبار هم الجيل الفاشل) السائدة في هذا السن، يتم إشباعها أيضا. العالم مأساوي باستمرار بسبب خطايا الأجيال السابقة، التي دمرت المناخ ورفعت معدلات التلوث لدرجات قياسية، ونشرت الأوبئة، وحطمت المدن والدول في حروب بأسلحة فتاكة. والبطل عادة نموذج برىء عكسهم رافض للعنف والدم.
السطر الأخير يوضح نسبيا لماذا لا يوجد وسط أبطال الأعمال الناجحة الحديثة حاليا، نموذج شرير غير أخلاقي يعادل مثلا "أليكس" في Clockwork Orange. هذا النموذج رغم كونه ضحية أيضا في القصة، لا يشبع حاجة الجمهور الحالي للبطل المثالي، الذي لا يفقد بوصلته الأخلاقية مهما كانت الظروف. البطل دائما نبيل ويفدي الآخرين بنفسه.
مشهد من The Hunger Games
أحد عوامل النجاح الأخرى تتعلق بإعلام وتكنولوجيا العصر الحالي. الإنترنت والسوشيال ميديا بالأخص، كرست في الكل فكرة أن البشرية تتجه للأسوأ. لو ابتكر أحد العلماء وسيلة لزيادة إنتاج الفدان الزراعي، أو لاستصلاح أنواع تربة ميئوس منها، أو لعلاج مشكلة صحية، لن ينال الخبر حجم أهمية أو ترديد، تقارن بخبر عن اقتلاع شركة لأرض زراعية لبناء مصنع. أو حريق في أحد الغابات. أو كارثة طبيعية في منطقة ما، أنهت حياة آلاف الكائنات.
في الحقيقة أنتجت فكرة (نحن الجيل الضحية) آليات دفاع نفسية ضد أى إنجازات بشرية جديدة تهدم هذة الفكرة. ولهذا ستجد مثلا كل كشف أو سبق علمي مما سبق، يستلزم مزايدات وادعاءات فورية من نوعية: الطعام المعدل جينيا كله مسرطن - مصادر الطاقة كلها ملوثة للبيئة - المياه ستصبح سامة - الهواء سيصبح غير صالح للتنفس.. إلخ المزايدات السخيفة، التي أصبحت مهنة في حد ذاتها للبعض.
أضف لكل ما سبق، الحديث المتواصل عن الأزمات الاقتصادية ومعدلات البطالة، أزمات السكن وارتفاع أسعار العقارات، أخبار وكوارث التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط. هذا الجيل باختصار مطارد باستمرار بفكرة (القادم أسوأ) لهذا يتفاعل بشكل أقوى مع "الدستوبيا" كمعادل أكثر واقعية للمستقبل.
بعيدا عن المستوى الأدبي للأصل، ولم أقرأ إلا أول أجزاء Hunger Games من باب الفضول، أعترف أنني لم أستمتع بهذه الأعمال نهائيا على المستوى السينمائي رغم نجاحها التجاري. أرى أغلبها أعمال يتراوح مستواها بين الرديء والمتوسط. وبها قدر كبير لا يحتمل من التصنع والافتعال في الأحداث.
اقرأ أيضا: وأخيرا دستوبيا هوليوودية ناضجة في Snowpiercer
أفضل أعمال سينمائية عن أفكار الدستوبيا في السنوات الأخيرة لم تحظَ بنجاح تجاري يليق بها. باستثناء Mad Max: Fury Road الذي حقق نجاحا جيدا، وإن كان يقارن أيضا بنجاحات أفلام دستوبيا المراهقين، واجه الباقين إيرادات سيئة.
القائمة تضم مثلا الطريق The Road إنتاج 2009 المقتبس من رواية بنفس للأديب كورماك مكارثي صدرت عام 2006. أو أطفال الرجال Children Of Men إنتاج 2006 المقتبس من رواية بنفس للأديبة بي دي جيمس صدرت عام 1992.
مشهد البداية في Children of Men
في العملين الشخصية الرئيسية لرجل في الأربعينات. هذا غالبا عائق مع جمهور الـ Young Adult Dystopian الذي يعتبر أصحاب هذا السن، فئة لا تصلح حتى لشرف محاولة إنقاذ الموقف، بعد كل ما قامت به من أضرار للعالم!.. وهو ما يذكرنا إلى حد ما بنغمة رفض مشابهة للكبار تتردد في المنطقة العربية، مع أحداث وثورات السنوات الأخيرة. هل يمكن اعتبار ما سبق ضمن أسباب فشل فيلم Tomorrowland مؤخرا؟
اقرأ أيضا: جورج كلوني وسباحة عكس الدستوبيا في Tomorrowland
رغم هذا فمن المؤكد وسط كل هذا الزحام القصصي، أن قائمة "الأنجح" تعكس قدرا ما من التميز مقارنة بالباقي. ومن الطبيعي أن تكون هذه الأفكار موضع إغراء لهوليوود. شهرة الروايات تتكفل بالدعاية للفيلم، وتجعله استثمارا مطمئنا.
يضاف إلى ذلك أن طبيعة الأحداث فيها أيضا، تسمح لهوليوود باستعراض عضلاتها في مشاهد الأكشن والخدع السينمائية، وأن السلاسل الأدبية نفسها مسلسلة لعدة حلقات، وهو ما يجعل مهمة المنتجين سهلة في استثمار فكرة واحدة لبيع عدد تذاكر أكبر لنفس المتفرج..
الفترة القادمة ستشهد استمرار أفلام سلاسل (Hunger Games - Divergent - The Maze Runner)، بالإضافة إلى سلاسل جديدة مقتبسة من روايات أخرى. هوليوود أيضا تخطط لأفلام أخرى عديدة غير مقتبسة من أصل أدبي.
وكالعادة أعادت هوليوود البحث في الدفاتر القديمة المرتبطة بالفكرة، وفي الخطة إعادة إنتاج لكلاسيكيات عديدة. ولنفس السبب شاهدنا أخيرا هذا الصيف جزءا جديدا من سلسلة ماكس المجنون Mad Max بعد غياب 30 سنة عن الشاشات، بغض النظر عن كونه لا يلامس جزئية (البطل المراهق).
اقرأ أيضا: ماكس المجنون يعيد هوليوود لصوابها في Mad Max: Fury Road
يوتوبيا شباك التذاكر والمبيعات، تستدعي حاليا تحضير وجبات دستوبيا مستمرة لتغذية عواطف المراهقين. هذا في حد ذاته لا يُمثل أزمة، لكن للأسف كل هذا التكثيف الإنتاجي لم يثمر عن أعمال جيدة حتى الآن تمثل إضافة حقيقية لسينما الدستوبيا.
لمتابعة الكاتب على الفيس بوك