Gone Girl - مواهب حاضرة في فتاة غائبة


عندما أفكر في زوجتي، تنتابني أفكار بخصوص رأسها بالأخص. أتخيل نفسي أحطم جمجمتها الجميلة، وأفحص مخها في محاولة للحصول على أجوبة الأسئلة المعتادة في أي زواج. فيما تفكر؟.. بماذا تشعر؟.. ماذا فعلنا ببعضنا؟
بهذه الجمل القصيرة الصادمة التي نسمعها بصوت الزوج نيك دون (بن أفليك)، بينما تكشف الصورة تدريجياً، عن تعبيرات مُحيرة على الوجه الجميل للزوجة الفاتنة إيمي (روزاموند بايك)، يبدأ المخرج ديفيد فينشر فيلمه العاشر فتاة غائبة Gone Girl.
على السطح يعيش الثنائي حياة زوجية جيدة. الزوج كاتب سابق يملك حانة مع أخته التوأم. والزوجة كاتبة لها شهرتها. لا بسبب أعمالها، لكن لأنها في طفولتها كانت مصدر إلهام أبويها في كتابة سلسلة قصص ناجحة باسمها. وعندما تختفي فجأة مع آثار عراك في المنزل، يبدأ اللغز الأول في الفيلم، أين هى؟.. ومن خلال التحقيقات وسلوكيات الزوج الغريبة، ومذكراتها المكتوبة التي نقرأها في مشاهد فلاش باك متداخلة مع الأحداث، يبدو زواج الثنائي أقل مثالية مما يظهر، ليصبح اللغز الرئيسي: هل قتلها زوجها؟
يهوى فينشر وضع أبطاله والمتفرجين في جهنم بشكل تصاعدي، وهو ما ينطبق على كل أفلامه تقريباً. حتى في فيلمه الوحيد المختلف نسبياً في الرتم والطابع الحالة الغريبة لبنجامين بوتون The Curious Case of Benjamin Button ستجد نفس التيمة موجودة، وإن كانت جهنم في الأخير تختص بحالة مرضية فنتازية للبطل.
اقرأ أيضا: الحلم الأمريكي رمادي أكثر في A Most Violent Year
جحيم الأبطال هذه المرة، يكمن في الكم غير العادي من الضغوط الزوجية. ويتصاعد بسبب الاهتمام الإعلامي لحادث الاختفاء، ليصل للذروة مع نهاية الفيلم. فينشر يعيد صياغة مصدر جحيم مختلف، بعد أن كان مثلاً كائن فضائي في Alien³ وقاتل متسلسل يسعى لتطهير المجتمع في Se7en.
الفيلم مقتبس عن رواية ناجحة بنفس الاسم، وجد فيها فينشر ضالته للمؤلفة جيليان فلين التي تولت أيضاً كتابة السيناريو. ولا عجب في تركيزها الدرامي على الميديا كلاعب مؤثر في روايتها، لأنها عملت سابقاً لفترة طويلة كمحررة وناقدة تليفزيونية في مجلة انترتينمنت ويكلي. السيناريو محكم ومتماسك لأقصى درجة، وإن كان الفضل الأساسي في جودة الفيلم يعود للمخرج.
اقرأ أيضا: Dark Places - رحلة نصف مظلمة لشارليز ثيرون وجيليان فلين
لنبدأ باختياراته للأدوار. بن أفليك إجمالاً لا يُصنف كممثل قدير أو مبدع، لكن لديه ميزة مهمة تجعله الاختيار المثالي للدور، وهى امتلاكه التلقائي لقدر ما من السذاجة المحيرة والتردد، التي تجعل كل جملة يقولها موضع شك باستمرار. ولهذه الميزة فقط أعتقد اختاره فينشر. براعته في الدور لا تنبع من تقديمه أداءً مختلفا فيه، بقدر ما تنبع من كونه الدور المثالي الملائم لطبيعته.
هل يكذب فيما يقوله أم لا؟.. هذا التساؤل يجب أن يكون مصدر حيرة المشاهد طوال الوقت. أفليك المتردد بالفطرة، وملامحه التي تبعث على التعاطف، لا تجعل التساؤل فقط قائم باستمرار في عقلية المشاهد مع كل مشهد يؤديه، بل أيضا عناصر كفيلة مع البناء الدرامي للفيلم ككل، بخلق مساحة مستمرة من الارتياب في الشخصية، حتى عندما تغيب عن الشاشة.
يظل الفيلم كما يوحي عنوانه مدينا بالجزء الأكبر تمثيلياً لبطلته روزاموند بايك. الممثلة الإنجليزية الأصل التي بدأت مشوارها السينمائي عام 2002، في أحد أسوأ أفلام جيمس بوند على الإطلاق Die Another Day. وارتمت بعدها لمدة 12 عاما في عدد من الأفلام، التي يصعب تذكر أى منها، تقدم فجأة مع فينشر دور استحقت عنه ترشيح الأوسكار، سيغير تماماً طبيعة فرصها المستقبلية.
اقرأ أيضا: Return to Sender - اغتصاب الشخصية والممثلة
مدير التصوير جيف كورننويث يعود للتعاون مع فينشر للمرة الثالثة على التوالي، بعد أن انتزع ترشيحين أوسكار سابقاً بفضله. التركيبة اللونية السائدة لكل أفلام فينشر هي دائماً (الأخضر - البُنى). اختيار مثالي مع الإضاءة الخافتة المعتادة للطابع الكابوسي الموتر للفيلم. لكن ما يميز عملهما هذه المرة هو القدرة، على صناعة تكوين بصري مختلف أكثر حياة، لمشاهد الفلاش باك في نيويورك، التي يعكس بعضها قدرا من الانسجام بين الزوجين، عن المشاهد المعاصرة لهما. بدون تصنع أو افتعال بصري.
الحيلة الغير استعراضية، يساندها مونتاج دقيق لـ كيرك باكستر الفائز بجائزتى أوسكار عن تعاونه مع فينشر في آخر فيلمين. القصة تنتقل عشرات المرات بين الماضي والحاضر، لكن فرق الصورة، والمونتاج الدقيق المصحوب عادة بتعليق صوتي للراوي، أو بموسيقى مميزة من الثنائي (ترينت رينزو - أتيكوس روس) في بداية كل نقلة زمنية، عناصر حافظت باستمرار على تركيز المتفرج بدون تشتت، بخصوص الترتيب الزمني للأحداث.
الفيلم ككل كمحاولة معاصرة من فينشر لتقديم سينما هيتشكوك (اللغز البطيء والحل الذي يخلق لغز آخر - الشقراء الفاتنة محور الأزمة - الأسلوب الأهم من المغزى - النظرة الدونية غير المتعاطفة أحياناً للأبطال أو للبشر عامة). كلها عناصر ميزت سينما الراحل، وأساسية في الفيلم.
من المؤسف أن الفيلم نال ترشيح أوسكار واحد (أفضل ممثلة). أراه أجدر بالترشيح في فروع عديدة أخرى من أفلام نالت الشرف العام الماضي (فيلم - اخراج - سيناريو مقتبس - تصوير - مونتاج).
على كل يُعرف فينشر الفيلم الذي يثير اهتمامه، باعتباره الفيلم الذي يترك ندبة ما في ذاكرتك، ويضرب مثلاً بفيلم الفك المفترس Jaws لـ سبيلبرج، الذي جعله يخاف من السباحة للأبد. Gone Girl فيلم يحقق شروط مخرجه للخلود، وسينجح بالتأكيد في ترك ندبة ما لأغلب المُتفرجين. خصوصاً المتزوجين منهم.
اقرأ أيضا: من الفك المفترس 1975 حتى عالم الديناصورات 2015
قد لا يتصدر الفيلم الترتيب كأفضل أفلامه. لا وجود هنا لحيوية وأصالة Se7en أو لطموح وثورية السرد السينمائي في Fight Club أو لانضباط الإيقاع الشبه إعجازي في Zodiac، لكن فينشر يثبت من جديد أنه أفضل الموجودين على الساحة عندما يتعلق الأمر ببناء فيلم الاثارة والتشويق. قدرته المستمرة على وضع لمسات ساخرة أقرب للكوميديا السوداء، وسط أكثر الأحداث والمفاجآت كآبة لا تُبارى. موهبة فينشر حاضرة في كل مشهد في فتاة غائبة وهذا يكفي.
باختصار:
فيلم فينشر العاشر لا ينافس على لقب الأفضل في تاريخه، لكن يظل ضمن أهم أفلام الجريمة والإثارة السنوات الأخيرة، ويحصد فيه كمخرج (الأفضل) من مواهب وأسماء عديدة، على رأسها بطلته روزاموند بايك.