التوقيت الثلاثاء، 06 مايو 2025
التوقيت 02:41 م , بتوقيت القاهرة

عيون لا تنام.. بداية رأفت الميهي المبهرة

يمتلك المخرج والسينارست الراحل الكبير رأفت الميهي تجربة تختلف كثيرا عن تجارب مخرجي الثمانينيات، سواء في نقاط البدء وأسس الانطلاق أو في شكل المشروع السينمائي ككل. فبداية الميهي لم تكن بداية مخرج صاعد يحاول التعبير عن نفسه كباقي مخرجي هذه الموجة السينمائية، ومشروعه لم يلتزم كثيرا بالقواعد العامة للواقعية الجديدة بل خرج بها حرفيا لحيز الواقعية بلا ضفاف على حد تعبير روجيه جارودي، ليدخل بها لمناطق الخيال العلمي والمحاكاة الساخرة "البارودي"، وبالطبع الفانتازيا التي أصبح البعض يسحبها على كامل تجربته بالرغم من حجم المغالطة الهائل في اختصار إنجازه في الفانتازيا.



انطلاقا مما سبق نجد أنه من الصعب جدا التعامل مع فيلم الميهي الأول كمخرج "عيون لا تنام" الذي قدمه عام 1981 بقواعد العمل الأول كما هو الحال في "ضربة شمس" لمحمد خان أو "الغيرة القاتلة" لعاطف الطيب. ففيلم رأفت الميهي تسبقه أعوام طويلة من احتراف العمل كسيناريست مع عدد من كبار مخرجي السينما المصرية الكلاسيكية أمثال كمال الشيخ وسعد عرفة وعاطف سالم. وهي سنوات تمكن الميهي فيها من إثبات قدرته الخاصة على سرد حكايات تقليدية بطرق غير تقليدية، فكان أحد حملة مشعل التغيير في شكل السرد الكلاسيكي لقرابة الخمسة عشر عاما قبل أن يقدم على تجربته الإخراجية الأولى. 


شاهد فيلم عيون لا تنام



الأمر الذي جعل "عيون لا تنام" يخرج خاليا تماما من العيوب التقليدية للبدايات من قلة خبرة وتوتر أسلوبي ورغبة في تقديم أكثر مما يحتمله الفيلم. بل جاء على العكس تماما عملا ثقيلا مشبعا بالخبرة، يستخدم نصا مسرحيا من عيون الكلاسيكية هو نص "رغبة تحت شجرة الدردار" ليوجين أونيل، ويطوعه ليضعه في هيكل سردي ينتمي بوضوح للواقعية الجديدة في أكثر صورها نضجا. ولعل ذلك النجاح كان أحد اتجاهات الميهي بدءا من فيلمه التالي للمزيد من محاولات التطوير لخوض مساحات سردية جديدة تلائم موهبته كمؤلف طليعي من الطراز الأول.


عن النص ومعالجته
يعد فيلم "عيون لا تنام" نموذجا مثاليا لكيفية تعامل صانع السينما مع النص الأدبي أو المسرحي. فرأفت الميهي يستخدم النص المسرحي كنقطة بداية فقط يأخذ منها الهيكل العام للحكاية وخريطة علاقات الشخصيات ببعضها، ليأخذ هذا الهيكل ويعيد تشكيله بما يلائم ما يريد قوله من الفيلم، ثم يقوم بزرعه داخل السياق المكاني والزماني الخاص به. فالفيلم هنا يخلص للنص المسرحي بذكر المصدر بوضوح وبالاحتفاظ بالهيكل العام، لكنه يخلص أكثر لنفسه ولصانعه الذي يدرك جيدا الفارق بين مسرحية تدور أحداثها في الولايات المتحدة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر وبين فيلم سينمائي تدور أحداثه في قاهرة الثمانينات في حقبة ما بعد الانفتاح التي طالما شغلت أذهان فناني هذا الجيل.


الفيلم يدخل مباشرة ومن اللحظة الأولى في الموضوع بتأسيس علاقة الأسطى العجوز ابراهيم (فريد شوقي) بالمرأة الشابة محاسن (مديحة كامل) التي تزوجها لتخدمه وتخدم أشقاءه. وبالرغم من طبيعة العلاقة المعقدة التي تربط إبراهيم بأشقائه أسريا ونفسيا، إلا أن المخرج المؤلف لم ينخرط في أي مقدمة تأسيسية، وفضل أن يتم توضيح هذه العلاقات تباعا باستخدام جمل حوارية يتم ذكرها في سياق مشاهد الفيلم بحيث لا تبدو دخيلة على الحوار الطبيعي، وهو بالطبع نجاح سردي يقترن بالنجاح الأكبر هو خلق عالم درامي بمواصفات خاصة جدا هو عالم ورشة الأسطى إبراهيم. تلك الورشة التي توجد في موقع جغرافي غير مألوف في السينما المصرية، فهي مقامة على مساحة ضخمة أسفل كوبري 6 أكتوبر الذي كان وقت صناعة الفيلم لا يزال جديدا معبرا عن صورة القاهرة بعد التعديلات الانفتاحية.


الموقع الغريب يجعل سطح سكن إبراهيم وقدس أقداسه الذي يُحرّم على أشقاءه الصعود إليه ويخفي فيه أمواله، وتتحمم فيه زوجته الجميلة بلا تحفظ، يقع حرفيا في مستوى عجلات السيارات الفارهة التي تمر على الكوبري، والتي يملأ صوت حركتها المستمرة شريط الصوت الدسم المعد بعناية ليعبر عن طبيعة العالم المحيط بالشخصيات، عالم الصخب والحركة التي لا تتوقف من أجل أي شخص مهما كانت قيمته أو أي حدث مهما كانت جلالته. هذا العالم الذي تداعت فيه قيم فطرية كمحبة الأخ لأخيه، ليصبح المعيار المادي هو المحك الوحيد للعلاقات بين الشخصيات، وبالتحديد فكرة الملكية الخاصة التي قد يكون "عيون لا تنام" هو أفضل فيلم مصري قد تناول تأثيرها السيكولوجي بالتحليل.


الملكية الخاصة والسلطة الأبوية
بقليل من التفكير ستجد أن كل التوترات القائمة بين إبراهيم وأشقائه حتى من قبل أن يبدأ الفيلم، وكل الجفاء والمشكلات التي ستقع بينهم لاحقا، ترتبط ارتباطا وثيقا بحقيقة تقسيم الملكية في عالم العائلة. فالورشة التي تربي الأشقاء الأربعة وهم يعملون فيها مملوكة بالكامل لشقيقهم الأكبر، الذي يعاملهم كأُجراء فيجعلهم يسكنون غرفا صغيرة بعيدة عن المنزل الذي يسكنه وحده، ويمنحهم يوميات كأي صبي من صبيان الورشة، بل ولا يجد حرجا من أن يمد يده ليضربهم وهم الرجال اليافعين، معتمدا على أنهم لن يتجرأوا ليردوا له الضرب احتراما لمكانته، وخوفا من أن يطردهم ويحرمهم من كل شيء.


الغريب أن إبراهيم في قراره نفسه ورغم ممارسته الفاشية يؤمن بأنه على أقصى يسار العدالة مع أشقائه، كيف لا وهو من احتضنهم بعد وفاة الوالد، وقضى شبابه يعمل في الورشة من أجل الإنفاق عليهم. ثم إن المال بحكم القانون ماله، وما ظلم من يحكم في ماله!


الحقيقة أن نظرة ابراهيم تحمل بعض المنطق، فلا تستطيع أن تمنع نفسك من التعاطف مع رغبته في الاستمتاع بما فاته من الحياة، وهو جزء من قدرة المؤلف على خلق شخصيات إنسانية من لحم ودم، تحمل بداخلها الأبيض والأسود بعيدا عن الشكل الكلاسيكي الأحادي.


منطقية موقف الأسطى العجوز لا تنفي حقيقة الظلم الاجتماعي الذي يتعرض له أشقاؤه الثلاثة، والذين يتخذون موقفا عدائيا من زوجة شقيقهم الشابة يحمل هو الآخر مبرراته الخاصة. فإذا كانت قواعد الملكية الخاصة هي ما حولت حياتهم لجحيم مستمر يحاولون التخلص منه بالتجول في الشوارع ليلا للشعور ولو بقدر ضئيل من الانعتاق من عبودية المالك، فمن أبسط النتائج المترتبة على ذلك أن يفكروا في الأمور بنفس القدر من المادية ويتعاملوا مع محاسن باعتبارها امرأة طامعة في الاستيلاء على مال شقيقهم الأكبر.


الجنس كفعل مادي ومعنوي
المادية في طريقة التعامل مع محاسن مرتبطة بحدث آخر وقع في الماضي، هو مغادرة والد الأشقاء الثلاثة للمنزل وهجرانه لزوجته وأبناءه من أجل امرأة أخرى أصبحت لاحقا والدة أخيهم الرابع اسماعيل (أحمد زكي)، وهي علاقة سرعان ما انتهت بوفاة الأب لتأتي زوجته وابنها الرضيه لتلوذ بأخيه الأكبر ابراهيم فيربيه كما يربي شقيقيه. هذا الماضي ذو تأثير واضح على علاقة الأشقاء ببعضهم وهو ما يظهر في تكرار مناداتهم لاسماعيل باسم أمه "ابن نظلة".


وبالرغم من احتواء الحكاية على كل أشكال الشخصية الإنسانية في قوتها وضعفها (حب يدفع رجل لهجر أبنائه – أخ شهم يحتضن أشقاءه – امرأة تلجأ لعائلة هجرها رجل من أجلها)، فإن الجميع يتعامل مع نفس الحكاية من منطلق مادي بحت، فيؤمنون بأن الأب ترك زوجته وذهب لنظلة ليتمتع بجسدها ومالها والمخدرات التي تقدمها له، ويرى إبراهيم أن إنجازه الأكبر هو إنفاقه على إخوته وليس احتضانه لهم، والمال هو الرابط الوحيد الذي يجمع الأربعة بالرغم من ماضيهم المشترك الذي يفترض أن يكون مفعما بالمشاعر. وهو نفس المنطلق الذي يجعل الجميع يتعاملون مع محاسن حسب فهمهم للأمور، فابراهيم يراها خادمة له ولأشقاءه ووسيلة للإنجاب بعد أعوام من الانتظار، والإخوة يرونها كما قلنا راغبة في المال، دون أن يفكر أحدهم للحظة أنها امرأة ذات مشاعر تود أن تعيش حياة هادئة تحميها من ذل الفقر دون أن تستبدله بذل المادية والكراهية.


على الجانب الآخر للأمور، ونظرا لأن الإنسان من المستحيل أن يعيش ماديا بصورة مطلقة، نلاحظ حاجة إسماعيل لتعويض ما فقده من حنان واحتضان في علاقته بالعاهرة سميحة (سعاد عبد الله). فالعلاقة بينهما ليست علاقة عهر تقليدية ولكنها أشبه بعلاقة أوديبية بين ابن وأمه، وهذا ما يظهر جليا في أول مشهد يجمعهما معا والذي تستعجب فيه سميحة من رغبة اسماعيل في أن تقوم بتحميمه.


فاسماعيل الذي أجبرته التنشئة على التعامل مع كل الأشياء بما فيها الجنس باعتباره فعل مادي بحت، يمثل قيام العاهرة العجوز بتحميمه إشباعا لحاجته إلى الدفء الذي افتقده طوال حياته، وهو شيء أقيم بكثير له من أي فعل جنسي مادي يمارسه معها.


إسماعيل هو ثمرة المجتمع المادي، فهو الأخ الأصغر الذي نشأ منذ طفولته في عالم الأسطى ابراهيم القائم على الملكية الفردية المتسلطة، ليخرج مشوها محروما من الإشباع الإنساني الذي يلتمسه ولو من عاهرة، وفي نفس الوقت هو قاس لا يتورع عن الإضرار بزوجة شقيقه من أجل المكسب المادي. ذلك الصراع داخله هو ما جعل قلبه يلين تجاهها مع الوقت عندما تأكد مع الوقت أنها ليست طامحة في للمكسب المادي وأنها مجرد ضحية أخرى لتجبر ابراهيم، ليكون ذلك اندلاعا لشرارة العلاقة التي ستنشأ بينهما فلا تقدر محاسن على رفضها، كيف لا وهي الأخرى بحاجة لإشباع جنسي معنوي من شخص يحبها لا من شخص يراها خادمة ووعاءا للحمل.


جنين التشوه وتهاوي الصرح المادي
كل الطرق أدت إلى العلاقة المحرمة التي انطلقت بين إسماعيل وزوجة أخيه، وهي علاقة تجبرك على أن تأخذ منها نفس موقفك من كل ما في الفيلم: التأرجح بين القبول والرفض. فبينما هي علاقة محرمة بكل المقاييس الدينية والأخلاقية، إلا أنم تتفهم بشكل أو بآخر دوافع طرفيها وحاجة كل منهما للآخر، فكلاهما وجد في الآخر الجنس المعنوي الذي يفتقده (بينما يتوفر الجنس المادي لكل منهما بسهولة)، وهو ما يجعل العلاقة أقرب للحب منها للخيانة، ففي مجتمع سوي يؤمن بقيمة الحب والعلاقات الإنسانية كانت محاسن ستتطلق من زوجها لتتزوج بمن تحب، ولكن الخلل المسيطر على عالمهما بأكمله هو ما دفعهما دفعا نحو الهاوية، حتى بلغا قاعها عندما حملت محاسن بابن إسماعيل ليظن إبراهيم أنها تحمل ابنه الذي طالما حلم به.


الجنين إذن هو جنين التشوه الناتج من تزاوج كل القيم الخاطئة والأمراض الحاكمة للمجتمع، وإذا كان إسماعيل قد ولد لأبوين متحابين قبل أن تجربه الظروف على النشوء في بيئة ملوثة، فإن الجنين هو وليد تلك البيئة من البداية، لذلك فلا تستعجب عندما يتحول هو الآخر لمجرد أداة في لعبة الصراع على الماديات والملكية، فيوافق والده الحقيقي على أن يلعب دور العم وأن ينسب الطفل كذبا لشقيقه الأكبر طمعا في ملكية الورشة، بينما يختار والده المزعوم أن يضحى بزوجته بكل سهولة عندما يخيره الطبيب بين الأم وجنينها.


كل شيء في عالم الشقيقين مختل، حتى الورشة التي يتصارعان عليها لا يحركهما تجاهها شعور بالانتماء والمسؤولية لكيان بذلا عمرهما في تأسيسه، ولكن مجرد رغبة في المكسب المادي تجعل كل منهما يكرر على محاسن سعادته بنفس العرض السخي بالتخلي عن الورشة مقابل المال الذي مثل غاية كل شيء، وكل منهما يجد مبررات دينية لما يفعله (فأحد سمات المرحلة أيضا استخدام الدين لتبرير أحط التصرفات)، لتنفعل المرأة التي حطمها عالمهم لتطالب كل منهم ألا "يتمحك في ربنا" لإضفاء الشرعية على دنائته.


بعد هذا الكم من التشوه كان لابد وأن تكون النهاية كارثية على الجميع: شقيقان هربا من كل شيء وتركا ماضيهما بحثا عن عالم آخر تتحقق فيه الأحلام، ورجل يُقتَل يوم ولادة ابن انتظره عمرا على يد شقيقه، الذي هو والد هذا الطفل الحقيقي، والذي وافق على أن ينسب لغيره طمعا في مال لن يستفيد به شيئا وهو يقضي عمره داخل السجن، وامرأة تموت وهي تلد ابن كل هذا التشوه، فتترك ابنها وماله لترعاه وسيطة الزواج الطامعة في المال، السمسارة التي تعد هي ومن يشبهها المستفيد الوحيد من كل ما يحدث من كوارث، فالتاريخ يضيع والأخلاق تنتهي والبشر يموتون، فقط ليتمكن السمسار لأول مرة أن يمد يده ويحرك أدوات الورشة التي أصبح مسيطرا عليها بعدما لم يكن يحلم بالاقتراب منها دون أن يؤذن له.


* المقال من كتاب "التابو في سينما جيل الثمانينيات".. يصدر قريبا عن هيئة قصور الثقافة


اقرأ أيضا