محيي الدين بن عربي..الإمام الأكبر


لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قـــرآن
أديـنُ بدينِ الحــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
خاض محيي الدين بن عربي في أدغال شائكة، طارحاً فكرة انقسم عليها كثيرين وهي "وحدة الوجود ووحدة الشهود".
"من قال بالحلول فدينه معلول، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد".
وملخص فكرة وحدتي الوجود والشهود عند ابن عربي أنه إذا قال الصوفي: "لا أرى شيئاً سوى الله"، فهو في حال وحدة شهود، وإذا قال: لا أرى شيئاً إلا وأرى الله فيه"، فهو في حال وحدة وجود.
فحال وحدة الشهود هو حال الفناء، وحال وحدة الوجود هي حال البقاء، والفناء والبقاء متلازمان، لاينفك أحدهما عن الآخر، وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإذا كنت فانياً عن شيء، فأنت لابد باقٍ بغيره، أو إذا كنت باقياً في شيء فأنت، لامحالة، فانٍ عن سواه.
ولد الإمام الأكبر محيى الدين بن عربى في الأندلس، وتوفي في دمشق عام 638 وله أربعمائة كتاب ورسالة، وديوان شعري "زخائر الأعلاق في ترجمان الأشواق"، بالإضافة إلى كتابه الأشهر "الفتوحات المكية"، وكتاب "شجرة الكون"، وتنوعت كتاباته ما بين الشعر والفلسفة وتفسير القرآن الكريم فاستحق لقب الشيخ الأكبر.
قال الدكتور مصطفى محمود عن الفتوحات المكية "هي كالبحر ينزل به الغواص إما يخرج باللؤلؤ أو لا يخرج مطلقاً"، وتفسير ذلك أن الكتاب يحوي معان صعبة تستلزم فتوح من الله لفهمها.
وقيل أنه التقى ابنة الشيخ الإيراني، أبي شجاع بمكة واسمها نظام، هام بها وكتب ما كتب عنها واتخذها رمزًا ظاهريًا بديوانه ترجمان الأشواق.
تنقل ابن عربي في شعره بين مدراج المحبة ومسالكها وحنين القلوب لرب الوجود وأشرقت كلماته في نفوس السالكين والمحبين وكانت در مكنون وسر مصون لا يلقى إلا في نفس عاشق، فتحدث عن قبول الأخر، وعاش شاهدًا وموحدًا بدين الحب الذي يجمع على كلمة سواء هي العشق، معترفًا أن فصاحة بيانه جاءت من صدق روحه لا يزوق كلامًا ولا ينمق لفظًا بل يتنفس كلماته فتقع موقع الأوراد في نفوس سامعيها.
يرى ابن عربي أن الحب سبب الوجود وسبب خلق الله للكون، والإنسان بالحب خٌلق وبالحب يعيش، والموجودات جميعها عنده محب ومحبوب حتى ذرات الطبيعة إنما يمسكها الحب أن تزول ولولا حب المعاني للكلمات ما امتزجا ولا عٌرفا، فالعالم يتنفس بالحب والكون يتحرك بالحب لموجده وخالقه.
وهو القائل: الحمد لله الذي جعل الهوى حَرَمًا تحجُّ إليه قلوب الأدبا، وكعبة تطوف بها ألباب الظرفا، وجعل الفِراق أمَرَّ كأسٍ تُذاق، وجعل التلاق عذبَ الجنى طيّبَ المذاق، تجلى اسمه الجميل سبحانه فألهى الألباب، فلما غرقت في بحر حبّه أغلق دونها الباب، وأمر أجناد الهوى، أن يضربوها بسيوف النوى، فلما طاشت العقول وقيّدها الثقيل، ودعاها داعي الاشتياق، وحرّكتها دواعي الأشواق، رامت الخروج إليه عشقًا، فلم تستطع، فذابت في أماكنها الضيقة ومسالكها الوعرة وجدًا وشوقًا، واشتدّ أنينها، وطال حزنها وحنينها، ولم يبقَ إلا النَفَس الخافت، والإنسان الباهت.
وكان للبيئة الاندلسية التي وجد فيها ابن عربي أثر ظهر في نفسه وفي شعره حيث لم ينخرط في صراعات وظهرت كلماته عذبة سامية، وكان حينما يحاور أحد ويثبت خطأه يقول له لقد أخطئ عقلك ولم يخطئ قلبك.
وهو القائل في شعره:
ليس يدري الغير ما طعم الهوى .. إنما يدريهِ منْ ذاقَ الهوى
والهوى لولا الهوى ما هويت.. نفسُ من ذاق الهوى غير الهوى
ما هوى نجمٌ إذا النجم هوى .. في هوى إلا من آثارِ الهوى
أولُ الحبِّ هوى نعلمهُ .. عندنا فالعشقُ من حكمِ الهوى
لا تذمنَّ الهوى يا عاذلي ... إنما للمرء فيه ما نوى
فبهِ كونَ كوني فبدا ... وبه قد فلق الحبُّ النوى
فيرى صاحبه في مَوصل .. ويرى عائدهُ في نينوى
فيرى الصاحب في وصلته ... ويرى العائدُ يشكو بالنوى
وقف الحبُّ على القلبِ إذا ... ذاقه عند مقاماتِ السوى
وإذا خاطبهُ منْ ذاتهِ ... ما يرى خاطبه منه سوى
قولِ من قالَ له في حكمه ... أنا في الحكمِ وإياكَ سوا
يومياً وحتى انتهاء شهر رمضان الكريم ننشر حلقات مسلسلة عن شعراء عشقوا الذات الإلهية وخاضوا بحار التصوف والعشق الألهي، فخرجت كلماتهم عذبة يهفوا لها المحبين والعاشقين فكانت رسائل على مر الأزمان تخاطب القلوب لا العقول.
لقراءة جميع الحلقات السابقة من هنا
عمر بن الفارض.. سلطان على عرش الغرام