التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 02:30 ص , بتوقيت القاهرة

مراجعات الإخوان وإعادة تأصيل العنف

رغم كل ما جرى من الإخوان ولهم من أحداث أكدت ضرورة المراجعة، التي يفترض أن تنصرف بالأساس إلى الأفكار والسلوك والآليات واللوائح، والأهم الفضاء المناسب للحركة، ورغم الفشل المدوي للجماعة بعد ثمانية عقود شغلت الدنيا كأهم حركة دينية وسياسية، إلا أن المراجعة في الغالب تقود الجماعة إلى تيه جديد، ومن ذلك ما طرحه بعد من يدعون القدرة على التنظير والتفكير من داخل الجماعة المنكوبة، خرج أحدهم فى سلسلة مقالات يتحدث عما سماه ثغرات التأسيس الأول والثاني، وأولويات التأسيس الثالث، إنطوى على العديد من المغالطات والأكاذيب التي شكلت مقدمات خاطئة تقود بالضرورة إلى إستناجات باطلة وكارثية.

يدعى الكاتب فى البداية أن حسن البنا لم يضع مشروعا متكاملًا حين أسس الجماعة، بل كان تأسيسها على حد قوله "أقرب إلى فكرة قذفها صاحبها وسط الناس وتركها تتفاعل معهم".

وهذه فرية كبيرة، فالرجل كان مولعًا بالتفاصيل واللوائح والخطط، لكن طبيعته السرية واحتكاكه الواسع بحركات سرية كالماسونية وغيرها، جعلت له فقهًا شفهيًا يوضح فيه لأركان جماعته التفاصيل، وفقهًا آخر مكتوبًا يسطره في رسائله ومقالاته التي لم تعبر بوضوح عن جل أفكاره بقدر ما عبرت وصاياه لخلصائه، وقد كان يقول دائمًا "إن تأليف الرجال أهم من تأليف الكتب، التي قد تبقى على الرفوف فلا يقرأها أحد بينما الأخ كتاب مفتوح يقرأه الناس كلما غدا أو راح"، ولو صدق لقال أن الرجل له ظاهر وباطن أيضًا وهذه الإزدواجية هي السمة الرئيسة التي جمعت الإخوان تاريخيًا، فصنعت لسانين أحدهما ينطق في العلن بما يجذب وينطق في السر بكلام آخر، وصدق فيهم المثل العربى "يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب"، ولازالت طباع الثعالب غالبة على طباع قيادات الجماعة حتى اليوم.

يقول الكاتب أن ماكينة التنظير والتفكير اضمحلت مقارنة بالماكينة العملياتية والتشغيلية، بل والزهد في التفكير باعتباره لونًا من ألوان الترف وهو محق فى ذلك، لكن حسن البنا كان حريصًا على ذلك، ومضت على منواله كل الكيانات الحركية التى تنشغل بالحركة أكثر من التفكير والتنظير، فيسبق الأولى فيها الثانية وهذا سلوك ثابت في كل التنظيمات، ثم يقول الكاتب أن أهم ثغرات التأسيس الأول أن البنا رغم شرحه فكرته للناس وشرحه من نحن وماذا نريد، لكنه لم يشرح كيف سيصل الى أهدافه ناعيًا عليه أنه حدد مراحل العمل بالتعريف الذي أحسن فيه عبر عشر سنوات، ثم التكوين الذي توسل فيه بتنظيم مدني قوي وتنظيم عسكري هو النظام الخاص، و له ثلاث أقسام الأول جعل على رأسه عبدالرحمن السندى، والثاني فى الشرطة جعل على رأسه محمود لبيب، والثالث في الجيش جعل على رأسه عبدالمنعم عبدالرؤوف، وهو النظام الذي استغرق ثماني سنوات في إنشائه.

مرحلة التنفيذ هي شاغل الرجل الذي يدعي أن البنا لم يفصل فيها، وهو محق إذا كنا بصدد الحديث عن المكتوب من أفكار الرجل رغم ورورد إشارات واضحة تحدد طريق التنفيذ من قبيل قوله "سنستخدم القوة حيث لايجدي غيرها، الحكم من وسائلنا وسنسعى لإستخلاصه بكل وسيلة".

كان حسن البنا يؤمن بالعمل المسلح، لكنه كان حريصًا على أن يستخدمه فى الموعد المناسب له ولقواته، لذا كان يقول أن القوة لديه لها مراحل تبدأ بقوة الإيمان ثم بقوة الوحدة ثم قوة الساعد والسلاح، إذن هى مراحل كانت تسكن عقل الرجل وإن تخلفت المدة التى حددها بعشر سنوات فى المرحلة الأخيرة التى عاجلته تطوراتها، باكتشاف خطط التنظيم العسكرى بكشف السيارة الجيب وانخراط النظام الخاص فى أعمال إرهابية من قبيل حرق محكمة الإستئناف وقتل الخازندار وغيرها، وهو ما عجل بتغييب الرجل من مسرح الأحداث ما خلف إنقساما فى قيادة الجماعة كما يدعى الكاتب فيقول: "إنه بموت البنا تعارضت رؤيتان لقيادتين، الأولى قيادة النظام الخاص، والثانية قيادة المستشار الهضيبي"، الذي يدعى الكاتب أنه لم يكن مقتعنا بجدوى وجود النظام الخاص، وهذه فرية أخرى يكذبها عبدالمنعم عبدالرؤوف، في مذكراته التي كشف فيها تنسيقه مع الهضيبى من أجل إعداد إنقلاب على مجلس قيادة الثورة.

لم يحدث انقسام أبدًا حول طريقة التعاطى مع الدولة المصرية، الخلاف فقط حول توقيت استخدام العنف وجدواه، لكنه مؤصل في عقل الجماعة منذ البنا ولم يتغير مع وجود الهضيبى، الذي كان مجرد وجه صامت يخفى الكثير، ثم ينتقل الكاتب فى مفصل أخر ليتحدث عن ضرورة تغيير الهياكل والبنى للإعداد لمرحلة جديدة، وهو الجزء الأخطر في كلامه الذي يتحدث فيه عن توديع فكرة التقية السياسية بإنهاء الحديث عن فكرة العمل لإصلاح المؤسسات من داخلها، عبر العنوان الذى ميز سلوك الجماعة عبر العقود الثلاثة قبل ثورة يناير وهو النضال السياسي والدستوري، فيقول "إن الجماعة بحاجة إلى رؤية تنهي بوضوح الجدل حول مسألة إصلاح منظومات الحكم القائمة في بلادنا إصلاحًا تدريجيا من داخلها، وتتعامل معها باعتبارها امتدادا لعقود الاحتلال الأجنبي المباشر، فبنية هذه الدول لم تصمم فعليا إلا لتكون أداة وظيفية تسيطر عليها أقلية طائفية أو عسكرية أو عائلية، تمثل بدورها امتدادا موضوعيا للمحتل الأجنبي. ولا قيمة للحفاظ على مؤسسات لا تؤدي وظائفها لصالح الأمة، بل على العكس قامت على استنزاف قدراتها وإمكاناتها وتفكيك أوصالها، والوسائل إذا فقدت مقصودها سقط اعتبارها كما تقول القاعدة الأصولية.

وهي فقرة كاشفة فى كلامه، أقرب إلى تخريجات أبو مصعب السوري أو غيره من منظري القاعدة لمن يعد لمؤلفاتهم، الرجل يدعو للجهاد وهدم المؤسسات والحرب الأهلية التى يراها إمتداد لمعارك الإسلام الخالدة، التي تتصل فيه رابعة العدوية بواقعة الحرة التي قتل فيها 700 من الصحابة حفظة القرأن، وبالتالي المراجعة هنا لاتحاول الإنتصار لما أكده كل العقلاء من كل التيارات السياسية في نصح الجماعة بأن تنهي الإزدواجية والإلتباس بين الدعوى والسياسة، وتحدد دورًا واحدًا. بل تدعو دون مواربة إلى سلوك مسار القاعدة وداعش في إنهاء للمدارة التي درجت عليها الجماعة عبر تاريخها.