التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 09:06 م , بتوقيت القاهرة

في حب جراند أوتيل

هناك مسلسل تُحبه، ومسلسل تكرهه، هناك عمل تُرشحه لأصدقائك، وآخر تشاهده والسلام، وهناك مسلسل كالحُلم، يخرجُ بتفاصيله إليك، أو يجذبك بطريقة سحرية ما إلى داخله، ذلك النوع من الدراما الذي يُشبه معزوفتك الموسيقية المُفضلة، ويمنحك الإحساس ذاته الذي تحسه إن استمعت إليها مُغمض العينين منفصلاً عن العالم، الفرق فقط أنك معه ستحتاج لأن تفتح عينيك قدر استطاعتك، كي لا تفوتك تفصيلة واحدة هنا أو هناك، وهكذا أرى أنا "جراند أوتيل".


الناظر من بعيد، ربما تصور أن "جراند أوتيل"، عمل سيحبه الحالمون دون غيرهم، هؤلاء الذين يتعلقون بالنوستالجيا كطوقٍ أخير للنجاة من زحام الكل شيء حولنا، فصُناع المسلسل نجحوا فعلاً في رسم تفاصيل عالم يصلُح لأن يكون ملاذًا حقيقيًا، بداية من كون الحكاية حدثت وتحدث في الخمسينات، وما أدراك ما الخمسينات وحلاوة الأشياء حينها، الأزياء، الديكورات، وتلك الحكاية السحرية التي تجمع عليّ بنازلي، ولكنك حين تقترب، تجد أنك أمام عمل جمع ذلك كله، وأضاف إليه نكهة بوليسية لم تفارقها الإثارة للحظة، وخلق لكل هذه التفاصيل خطًا دراميًا لم يفقد "ريتمه" يومًا، ولا أظنه سيفعل.



(1)
ما وراء الحكاية
هناك شيء لا نعرفه يملكه تامر حبيب،  كان ذلك جليًا مُذّ عُرض سهر الليالي، شيء يجعل الحوار بين شُخوص الحكايات حقيقيًا على نحو مرعب، نحو ثلاثة عشر عامًا مرت على عرضه ولن تمل رؤيته مرة بعد مرة، الأمر نفسه يحدث مع كل عمل ألفه، وكتب له حوارًا، حب البنات، عن العشق والهوى، وشربات لوز، وغيرهم طبعًا.


 ما يُأسرني فوق ذلك، هو ما يقوله تامر حبيب على لسان المرأة، المرأة في كل الأعمال التي حملت توقيعه مختلفة، تقول كل ما ينبغي أن تقوله في كل موقف وأكثر، ما قالته عُلا غانم في عتابها الأخير لشريف منير، كل ما قالته بسمة لهاني سلامة في واحد صحيح، تقرأ أنت ذلك وتتذكر مئات العبارات الأخرى.


صحيح أن البعض وجه له نقدًا لاقتباس "جراند أوتيل" من مسلسل إسباني، وبغض النظر عن مدى دقة ما قرأته عن أن الشركة المنتجة قامت بشراء حق استخدام قالب المسلسل، أو عن الصورة التي نوه بها صناعه عن اقتباسه، فالحقيقة أن المشاهد قد لا يعنيه ذلك كله، بقدر ما يعنيه أن مُنتجًا ما لم يكن ليصله قد وصله بالفعل، ووصله غير "منحوت" كما يُدمن البعض أن يفعل، بل أن البعض يقتبس من نفسه، ويكرر ما يظن أنها نجاحات، فيبتذلها أكثر مما هي، وأنا كمشاهدة أفضل أن أرى عملاً مقتبسًا، عن رواية عالمية ما، أو فيلم من هنا أو من هناك، على أن أرى كثيرًا مما يعرض الآن، ولن يذكره أحد، وربما لن يذكره كاتبه أصلاً.


(2)
ما بين علي ونازلي
ليس مجاملة لعملٍ أحببته، ولكنني أستطيع أن أقول إن حكاية نوال والكابتن خالد، قد وجدت لها أخيرًا شريكًا في قلبي، وأنني رغمًا عني، بت أحسد نازلي، وأفكر طويلاً في كل ما يقوله عنها علي، وفي كل تفاصيل قصتهما منذ اللقاء الأول، وحتى آخر مشهد رأيته.


القصة في مجملها كلاشيه، النادل، أو ابن الجنايني، الذي أحب بنت الذوات وأحبته، ولكن التفاصيل هي ما تصنع الفارق دائمًا، فهناك رقة أمينة خليل، التي تجعل منها أميرة حقيقية، طلتها ونظراتها وكل شيء، وهناك عمرو يوسف الذي ينضج في كل عمل عن سابقه، هناك عيناه اللتان تعكسان قوته بحبيبته وخوفه عليها وتقديره للفارق بينهما، وهناك ذلك المشهد الرائع، الذي بكى فيه كل منهما بين ذراعي الآخر في أعقاب مقتل ضحى- شقيقة علي- والذي قال فيه كل منهما الكثير جدًا، على الرغم من أن المشهد كان صامتًا. 


 


شيء غريب يحدث لنا حين نرى قصص الحب التي تمنينا أن نعيشها على الشاشة، حين نرى أن أحدهم ينظر لمن يحب كما نتمنى أن نفعل دائمًا، أو أن أحدهم يُنظر له كما نحلم أن ينظر لنا شخص ما، وحين نسمع كلامًا نودُ أن نقوله، ونودُ أن نسمعه، هذا الشيء تفعله بي الحكاية التي بينهما، وتجعلني أنتظر المشاهد التي تجمع بينهما بفارغ الصبر، والتي هي حلوة في كل حالاتها، حتى حين تنقلب من منتهى الحب إلى ذروة الغضب.


(3)
تفاصيل اللوحة
"جراند أوتيل"، يشبه لوحة بازل كبيرة، تخيل لو أن لوحة بازل كبيرة اعتمدت على قطعة أكبر من الباقي وتوزع الباقون حولها، سيئ طبعًا، وتخيل لو أن القطع كلها حلوة ولكنها لا تلائم بعضها البعض، النتيجة ستكون مسخًا، ذلك إن كانت نتيجة من الأساس، لكن "جراند أوتيل" هو لوحة بازل كبيرة، تتناغم قطعها لدرجة تجعلك إن نظرت تتصور أنها قطعة واحدة.
 الممثلون لا تشعر أنهم يمثلون عملاً، أنا مثلاً أفكر أحيانا كيف يمكن لأنوشكا أن تستكمل حياتها بعيدًا عن الجراند أوتيل، وأتساءل: هل لها شخصية أخرى أصلاً ؟ أحمد داوود الذي أثبت عمل بعد آخر أن نجاحه في أن يكون صابر الواطي في سجن النسا لم يكن مصادفة ولا ضربة حظ.. دينا الشربيني التي تؤدي الشر وكأنما هو طبيعتها، معهم محمد ممدوح الذي لم يترك أحد كلامًا ليُقال عنه، محمود البزاوي وسوسن بدر وغيرهم، أوركسترا تعزف مقطوعة باحترافية، وصلت بكل شيء إلى الكمال.


كل ذلك كان على خلفية موسيقية أبدعها التونسي أمين بوحافة، و"جراند أوتيل" لم يكن عمل بوحافة الوحيد في رمضان، إذ أبدع في الموسيقى التصويرية لـ "ونوس"، وكذلك "الميزان"، والموسيقى هنا مزجت بين كل الأشياء من آلات موسيقية ومشاعر، تجلس أمامها متحيرًا، أي حالاتها تحب أكثر، حين تصاحب مشهدًا رومانسيًا أم دراميًا، وأيًا كانت إجابتك فأنت تعرف جيدًا أن كل حالة منهما أفضل وأقوى من الأخرى.



بنهاية رمضان، أعرف جيدًا أنني سأفتقد "جراند أوتيل"، الأمر ليس مسلسلًا تحبه ومسلسلًا تكرهه أو مسلسلا ترشحه لأصدقائك، الفكرة في أن "جراند أوتيل"، يشبه الأحلام كثيرًا، وأنك ستغرق فيه مع الدقائق الأولى، ستتعلق به لأنه يعرف كيف يرغمك على التعلق، لأن به مواقف ربما مررت بها، أو تمنيت أن تمر بها، ولأن فيه كل ما تُحب أن ترى دون قصد أو تكلُّف أو مبالغة كلوحة بازل كاملة، أو كمقطوعتك الموسيقية المُفضلة، أو كقصة الحب التي تحلم، وستحلم بها أبدًا.