التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 11:30 م , بتوقيت القاهرة

"دوت مصر" تخترق الحدود الخطرة بين الجزائر ومالي

تنظيم القاعدة يتستر خلف عصابات التهريب على الحدود.. واللاجئون كارثة إنسانية

دوت مصر- برج باجي مختار - حسين بوصالح


أدى قرار السلطات الجزائر بغلق حدودها مع مالي- لأسباب ذكرت أنها أمنية- إلى الحيلولة دون عبور آلاف اللاجئين الفارين من أتون الحرب الأهلية في مالي، فضلا عن تقييد تنقل البدو الرحل ومحاصرتهم في نطاق جغرافي ضيق.
"دوت مصر" ذهبت إلى مدينة "برج باجي مختار" على الحدود بين الجزئر ومالي.. تلك المدينة التي تبعد حوالي 2600 كلم جنوب العاصمة الجزائر.. سلكناها عبر مضارب رملية صعبة في طريق قيل لنا أنه مفضل لقطاع الطرق والمهربين الذين يستخدمهم تنظيم القاعدة في تهريب الأسلحة عبر الحدود.

دليل الرحلة
رافقنا في الرحلة  "أتون" (32 عامًا) الذي ينحدر من منطقة "برج يباجي مختار"وهو مرشد خبير بالمسالك الصحراوية وكان ينتقل بين الحدود الجزائرية المالية قبل حربها ..
يقول "أتون": هذه المنطقة لم تعد أمنة مثلما كان عليه الحال سابقًا، فاضطراب الوضع في شمال مالي، والتدخل الأجنبي في الحرب، أثر على تجارتهم التي كانت تعتمد على نقل السلع والأغذية بين "برج باجي مختار" ومنطقة "الخليل" التابعة لمالي وتبعد عن الاراضي الجزائرية بحوالي 15 كيلومترًا فقط، لكن اليوم أصبح الدخول إلى "الخليل" مجازفة في حد ذاتها.


في طريقنا كانت الحياة ساكنة لا شيء يظهر لنا إلا الكثبان الرملية، وأحيانًا "الحمادة"، المعروفة بكثرة الحصى والحجيرات الصغيرة ثم تلوح في الأفق نباتات صحراوية قيل لنا أنها تسمى بـ "الجرجير"، وهو نباتات تتحمل الجفاف، يستعملها أهل البدو لمداوة إبلهم ومواشيهم.
عندما وقع بصرنا على قافلة من الجمال, عرفنا أننا وصلنا إلى موقع البدو الرحل، بعد مسيرة ربع يوم تقريبًا وكانت المنطقة التي استقروا بها على مسافة قريبة من الأراضي المالية.


الخيام مترامية الأطراف, وأطفال لا تفارق المعاناة ملامحهم، مثلما يرفض الذباب مغادرة وجوههم.
تحدثنا مع محمد (45عامًا) أحد بدو المنطقة وأب لأربعة أبناء ومتزوج من ثلاث نساء, عبر عن معاناته وأسرته والتي زادت تأزمًا مع الحرب على مالي وغلق الحدود ووضعية إبلهم فأجاب "تحسرت كثيرًا للوضع القائم علي الحدود، لاسيما وأن حياتنا كانت بين صحاري برج باجي مختار الجزائرية ومنطقة الخليل المالية, نرعى في الأراضي الجزائرية في فصل الربيع وصولاً إلى أواخر الصيف، لنغير الوجهة بعدها إلى الأراضي المالية، بعد بداية فصل الخريف وصولاً إلى فصل الشتاء، نظرًا لتوفر الكلأ لإبلنا في مثل هذه المواسم".


ويضيف "إبلنا تاهت بعد غلق الحدود، حيث يوجد أكثر من 100 من الإبل في الأراضي المالية، ولم أستطع الذهاب إلى هناك نظرًا لتحذير الجيش الجزائري من خطورة الدخول إلى هناك.. كما أن القبيلة باتت مشتتة بعد دخول بعض البدو الرحل إلى مالي وعدم قدرتهم الخروج منها، الأمر الذي أزم وضعنا ورسم صورة سوداء عن مستقبل الرعي لإبلنا".


ورغم صعوبة المنطقة والمكان والظروف المعيشية التي يواجهها محمد وأسرته في تلك المنطقة الخطرة التي تبعد آلاف الأميال عن العاصمة الجزائر إلا أن ذلك لم يمنعه من متابعة خطورة التدخل الفرنسي على مالي قائلا " الجزائر باتت مستهدفة من قبل جهات خارجية، لخلق الفوضى ونشر النزاعات الداخلية في المنطقة".


إبل منطقة برج باجي مختار مهددة بالانقراض، الأمر الذي يتخوف منه البدو الرحل، مع استمرار غلق الحدود، ونقص الماء والأمطار .
اقتربنا من إحدى الخيام التي تستخدمها نساء البدو الرحل، وجدناهن منهمكات في تحضير الطعام, قدموا لنا "اللمة"، وهي وجبة تصنع من الدقيق، وتُعد تحت الرمل، ويوضع فوقها الجمر, وتمزج مع لحم الغنم, وهي وجبة أساسية للبدو الرحل.
داخل الخيمة سيدة في مقتبل العمر، كانت حاملا في شهرها التاسع، التعب باديا عليها، اقتربنا منها، سألناها عما إذا كانت قد زارت الطبيب لمتابعة جنينها الأول, لكن تدخلت "ونا- 70 عاما"، أخبرتنا أنها "القابلة" التي تولد جميع نساء القبيلة، معتمدة على الأعشاب الطبية، وتقدم للنساء الحوامل حليب الناقة، المفيد جدًا، حسب قولها.

مراعي الإبل
توجهنا إلى مراعي الإبل, التي كانت أعدادها في حدود 300 رأس، ويسهر على متابعتها أطفال لم تتجاوز أعمارهم 15 عامًا، اقتربنا من أحدهم كان يبدو عمره 6 أعوام، وعند سؤاله عن سنه، لم يجد جوابًا، كيف لا وهو لم يسمع عن المدرسة، ولد فوجد نفسه راعيًا متنقلاً بين الحدود الجزائرية المالية, وسألناه عن أمنيته، فأجاب أنه يتمنى أن يستقر في بيت تتوفر له شروط الحياة، وأخبرنا ببراءة الأطفال، أنه يتمنى أن يأكل الكثير من الحلوى التي قدمناها له، والتي لم يأكلها من قبل، وحقيبة يحملها إلى المدرسة للتعلم.


عدنا مرة أخرى إلى برج باجي مختار، التي تبعد عن مكان تواجد البدو الرحل حوالي 250 كيلومترًا، وودعنا البدو بعد أن قضينا معهم وقتًا ممتعًا رغم صعوبة حياتهم، وقسوتها، إلا أنك تلمس فيهم قناعتهم وطيبتهم وكرمهم، صفات أصبحت قاب قوسين أو أدنى في زماننا في خبر كان .

تمياوين.. تعايش مع قساوة الطبيعة
تركنا البدو الرحل يواصلون صراعهم مع قساوة الطبيعة التي تأقلمت أجسادهم عليها وتوجهنا إلى مخيم اللاجئين بمنطقة "تمياوين"، غير بعيد عن منطقة "الخليل" المالية التابعة لدائرة "برج باجي مختار"، حيث فتح هذا المخيم لعشرات العائلات المالية الهاربة من جحيم حرب مالي .
 المخيم يزخر بأكثر من ثلاثين عائلة وجدت نفسها بعيدة عن ارض الاجداد ولا تعرف ماذا ينتظرها مستقبلا.. ولعل قصة "أم كلثوم" الطفلة التي لم تتجاوز الخامسة عشر عاما والأمراض التي لازمتها خلال حملها المبكر، لتنجب طفلة سمتها "فاطمة" تبدو  نحيفة بسبب سوء التغذية وكثرة أمراضها، فعادة ما تزوج العائلات المالية بناتهم في سن مبكرة .


أم كلثوم لم تكن ترغب بالزواج، لكن بإصرار والدتها رضخت للأمر الواقع وتزوجت بإبن عمها في "تمبكتو" بمالي، وبعد اندلاع الحرب هناك فرت الى المجهول برفقة عائلتها، غير أن زوجها لم يظهر له أثر بعدما ضاع- كما تقول- في الصحارى وهم متجهين مدينة "برج باجي مختار" الجزائرية.


الهلال الأحمر الجزائري، قدم اعانات ومساعدات محدودة لهؤلاء النازحين.. يقول مسؤول بالهلال الأحمر: هناك عوائق كثيرة مثل نقص المياه الصالحة للشرب، حيث يتطلب نقلها الى المخيم مسير خمس ساعات في مسالك صعبة إلى جانب نقص الأدوية.. ويتسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء في إتلاف المواد الغدائية سريعة التلف التي يتم تقديمها للاجئين في المخيم”.

قوات حرس الحدود
عند اجتياز الحدود الجزائرية المالية، لفت انتباهنا كثافة دوريات حرس الحدود والدرك الوطني التي تؤمن مداخل الحدود والحد من التهريب، ورغم أن هذه الظاهرة تراجعت مؤخرا بعد إقدام السلطات الجزائرية على غلق حدودها مع مالي منذ اكثر من سنة، الإ أن ذلك لم يمنع عددا من الجزائريين والماليين، من نقل السلع من مدينة "برج باجي مختار"إلى مدينة "الخليل" المالية.. وتم إلقاء القبض على عدد من المهربين وهم يقومون بتهريب مواد غذائية إلى "الخليل" ويوهمون السلطات عادة أنهم ينقلونها إلى مدينة "تمياوين" الجزائرية. لكن قوافل الشاحنات تذهب باتجاه الأراضي المالية وهو ما يضر بالاقتصاد الجزائري. وأحيانا استغلال المهربين من قبل تنظيم القاعدة الذي ينشط بمنطقة الساحل من خلال تهريب الأسلحة وتهديد الأمن القومي الجزائري .

مدينة غير شرعية
عدنا أدراجنا بعد يوم حار إلى "برج باجي مختار" التي تشهد نزوح العديد من مواطني مالي هربًا من جحيم الحرب في بلادهم، وحاولنا  الالتقاء ببعض هؤلاء اللاجئين إلا أن العديد منهم رفض الحديث، كونهم دخلوا الجزائر بطريقة غير شرعية، ولا يحملون وثائق تثبت هويتهم، لذلك يتخوفون من قيام الجهات الأمنية بإرجاعهم إلى أراضيهم، التي هي تشهد صراعًا بين القوات الفرنسية والجماعات المسلحة من جهة، وقبائل "الطوارق"من جهة ثانية.


وهناك اتهامات للجماعات المسلحة في المنطقة، بمزاولة تجارة المخدرات والتهريب والتصفية العرقية، واستغلال الأطفال في الأعمال الشاقة، ويتخذون من النساء "ما ملكت أيمانهم"، الأمر الذين دفع بالعديد من سكان شمال مالي إلى الهروب نحو الحدود الجزائرية قبل غلقها، بشتى الطرق، باتجاه برج باجي مختار، وهي المنطقة التي تبعد بـ 18 كلم عن الحدود المالية، و2600 كلم من العاصمة الجزائر.


وقد اختار اللاجئون الماليون، أحد شوارع كيدال، ملجأ لهم هربًا من جحيم الحرب.. وعند سيرنا في الشارع الرئيس للمدينة المسمى "الشارع الواسع"، لفت انتباهنا تجمع أعداد كبيرة من الماليين الذين تبدوا على وجوههم ملامح الشقاء والتعب، يعرضون خدماتهم للعمل في أي مهنة مقابل مبالغ لا تتجاوز500 دينار جزائري (حوالي 6.5 دولار أمريكي) في اليوم الواحد.


التقينا  المواطن المالي إبراهيم، لا يتجاوز عمره 15 عامًا، دخل الأراضي الجزائرية منذ نحو شهرين، عبر منطقة الخليل الحدودية هربًا من الحرب في غاوة، بحجة العمل من أجل إعالة عائلته التي لا تزال هناك، وقال: "ظروف العمل في برج باجي مختار صعبة جدًا.. والحصول على عمل أمر عسير.


وقالت المالية حسناء (43 عامًا)، بعد أن رفضت في بادئ الأمر الحديث إلينا، لكن بعد أن أعطيناها مالاً قبلت أن تبادلنا أطراف الحديث: دخلت الجزائر منذ نحو سنة تقريبا واشتغلت في بادئ الأمر كعاملة بيوت في العديد من المنازل .. وتعرضت للإهانة وسوء المعاملة  قبل أن استئجر محلا صغيرا مبنيا بالطوب، وحولته إلى شبه مطعم أعد فيه طبق (الميناما)، وهى الأكلة الشهيرة في مالي، والتي لقيت إقبالاً كبيرًا من قبل أهل المنطقة، حيث تعدها بلحم الغنم وتمزجها بالبصل والتوابل، لتقدمها ساخنة، وتجني من ورائها بعضًا من المال، لترسله إلى عائلتها وأطفالها في شمال مالي.


ولا يزال هناك أكثر من 20 ألف لاجئ من مالي في الشريط الحدودي المالي الجزائري، ينتظرون قرار إدخالهم إلى الأراضي الجزائرية، كونها الوحيدة التي تشهد الاستقرار على غرار العديد من دول الساحل، إلا أن آخرين فضّلوا التواجد بها بطريقة غير شرعية، وعملوا في أشق المهن، مقابل راحت بالهم، وأمنهم برفقة نسائهم والتي أساءت معاملتهن الجماعات المسلحة، واتخذت منهن زوجات عن طريق العنف.