التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 11:50 م , بتوقيت القاهرة

الفتوى الغائبة وفقه الواقع

أطلت علينا في موعدها السنوي دون تأخر، سلسلة فتاوى رفض وجواز تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد المجيد واحتفالات العام الجديد، وختمتها دار الإفتاء المصرية بفتوى حاسمة للأزمة، تصبح هي محط الأنظار والأقرب للقول الفصل، باعتبارها صادرة عن هيئة دينية وعلمية هامة تابعة لإحدى مؤسسات الدولة المصرية، وتُعبر عنها في الشأن الديني. تجيز هذه الفتوى التهنئة بألفاظ لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية!
 
ورغم بديهية الأمر وإنسانيته وعدم احتياجه لفتوى أو لجدال ديني بالأساس، إلا أن تراكم عقود من سيطرة خطاب متطرف على عقول المصريين، نجح على نحو بارز في خلق مساحة ثابتة لمثل هذه الأزمات لا تتغير ولا تنتهى بمرور الوقت.
 
 تتشابه هذه الجدليات من حيث طبيعتها مع عقليات أصحاب الخطاب المتطرف، من مناقشة البديهيات ودورية المناقشة، وعدم البحث عن حل نهائي وتوليد الأزمة من الأزمة، وتخيل ما لا يُعقل وطرحه كافتراضات منطقية، بحيث يظل المجتمع يدور في دائرة مُفْرَغة من القضايا المفتعلة والسطحية، دورها الأبرز هو حفظ وجود هؤلاء على سطح المجتمع! 
 
وقد نجح أصحاب هذا الخطاب بضغط تواجدهم في تشكيل صياغة فتوى دار الإفتاء الأخيرة، بحيث صدرت في صياغة تحاول الإفلات من كمائن قد نُصِبت لها، وعلى الرغم من كون الفتوى طيبة المعنى والمضمون، لكن التصارع السياسي والديني كان له دور في تشكيل صياغتها في الشق الأخير منها بتعبير استثنائي، أشبه بغُصةٍ في الحلق، كعادتنا في ألا يكون لدينا ما يجعل أمورنا تسير بشكل اعتيادي!
 
وكما اعتدنا فى التحيّات الافتعالية، والتعبيرات المعلبة الجاهزة في عقودنا الأخيرة، فالفتوى الأكثر منطقا وتسامحا في الأزمة صدرت بشكل من يحفظ ود كل أطراف الداخل، مسلمين ومسيحيين ومتزمتين، ويعلن بإشارة لطيفة أن هناك حاجزا ما لا يمكن تجاوزه، مسموح لكم بالتهنئة، وبتبادل المودة والمحبة، لكن تذكر أنك مسلم، وإياك أن تنسى، حتى لو كان الأمر لا يتعدى أكثر من توجيه ابتسامة مصحوبة بعبارة "كل سنة وأنت طيب".
 
ستنال ثوابك من الله الذي أمرك ببر المسيحي، نعم. لكن أيضا لكم دينكم ولي دينِ.
 
وهو أمر للأسف قد يقارب بين تصور دار الإفتاء من جهة  ومنهج السلفيين من جهة أخرى لفكرة المعايدة أو التهنئة، ورغم أن فتوى دار الإفتاء مخالفة للرأى السلفي كليا، فإنّ هناك تصورا ما بأن التهنئة قد تتخطى عبارة "كل سنة وأنت طيب" إلى عبارات تحيل المسلم إلى كاهن كنسي! 
 
وقد روج الإسلاميون كثيرا للفكرة الأخيرة، ففي أروقة الجامعات في فترة التسعينيات مثالا، كانت ملصقات التيارات الدينية تروج لتحريم احتفالات الكريسماس، بترويج رأي ابن عباس الذي أورده القرطبي في تفسيره لآية "والذين لا يشهدون الزور" وقوله إن شهادة الزور هي أن تشهد احتفالات المشركين، وليست ما نفهمه من شهادة أمام قاض أو حاكم أو قولة حق في موقف حسم، واستكملوا الأمر بإسقاط التفسير على المسيحيين المعاصرين بقرار من قادتهم الذين ينفقون على مطبوعاتهم الفخمة!
 
فهناك تصور ما قائم على تفسيرات قديمة، أن التهنئة تعني أنك لا بد وأن تؤمن بما يؤمن به الآخر الذى يتلقى منك التهنئة، فإذا ما هنأت شخصا بعيد ديني فذلك يعني طبقا لهذا المنطق أنك قد خرجت من دينك والتحقت بدينه دون دراية منك، وهو قياس لا يستحق حتى سحب الاهتمام عليه، وبنفس هذا القياس الغريب، فإذا ما هنأ مسلمُ مسلما بعيد ميلاده مثلا، يصبح الأول من نفس مواليد برج ميلاد الثاني حتما، كما أنه لو هنأ رجلُ سيدة بزواجها مثلا، فبنفس القياس فهو قد تحول من رجل لامرأة دون أن يشعر، وهكذا إذا ما أردنا الاستمرار في التفكير بنفس هذا المستوى!
 
على كل، فهذه فتوى مناسبة لمجتمع متوتر غير منسجم، يحاول بعض المخلصين جمع شتاته، فتوى ترضى جميع الأطراف، فالمسلم سيلقى التحية والتهنئة ولن يُمنع من أدائها، والمسيحي سيتلقى التهنئة ولن يُمنع من استكمال فرحته، والتجار سيبيعون بضاعتهم الكرنفالية، والسلفى سيجد بها الجانب الذي يتغذى عليه وينمو، حيث التفرقة ولو بلفظ بينه وبين الآخر، ودار الإفتاء تظل لها الكلمة العليا والقول الفصل!
 
لكن على الجانب الآخر، في الشارع حيث دوران الحياة الهادر، هناك حياة تسير بقوة دفع قوية لا تتوقف لالتقاط الأنفاس ولا يعنيها كل ما فات، تجبر الفتوى وأهلها على السعى وراءها، محاولين ملاحقة مستحدثات الأمور، ومسايرة الواقع السريع الذي لا ينتظر!
 
وحقيقة الحال أن السؤال الذي يحمل ملمحا دينيا، وكذلك الفتاوى الصادرة للإجابة عليه، كلاهما ليسا أكثر من عرض باهت محسومة نتائجه للسائل قبل المسئول، والغرض منه شئ آخر غير الاستفسار وغير الإجابة، وبالطبع غير التقيد بالفتوى.
 
فالحياة تسير بشكل طبيعي، والفتوى لاحقة للحدث وليست سابقة له، فالكريسماس قد أتى عشرات المرات من قبل، وواقع الحياة له فقهه الذي يفرض نفسه ويسير رغم أنف الجميع، ثم تكيف الفتاوى نفسها عليه فيما بعد، فبيوم ليس بعيد كانت تتردد عبارات التحريم بشأن الإنترنت ومن قبله الدِش ومن قبلهما التلفاز، ولكن إرادة الواقع ورغبات المجتمع فرضت ذاتها، فاختفت الفتاوى خجلا أمام الانتشار الساحق للتكنولوجيا، وأصبح محلها أرشيفات مهمَلة هنا أو هناك يتَّـبعُها أقلية ضئيلة للغاية ممن ظلوا متمسكين بها، بل أصبحت هذه الأدوات ذاتها من الأسلحة المؤثرة لأصحاب فتاوى تحريمها فيما سبق!
 
والحدث محل الفتوى نفسه متكرر بشكل دوري، وما انطبق عليه فى الماضى سينطبق عليه كلما تكرر، المحلات وأصحابها فى الغالب من التجار المسلمين تزين واجهاتها زينات أعياد الميلاد، والاحتفالات فرصة طيبة لترويج البضائع، والمارة يرونها فرصة سانحة لاقتناص البهجة فى أيام القلق، وروادها من المسلمين يفوق المسيحيين.
 
تكرار الفتوى سنويا، يعني أن الابتذال سيد الموقف، وأن السائل لا يحتاج فى الحقيقة سوى لفتوى أخرى تماما غير التى أُجيب بها، وهى فتوى: كُــن أكثر نضجا، يرضى الله عنك، هذا ما تحتاج إليه!
 
هذه هى الفتوى الغائبة التى يجب أن توجه لعموم الناس، كي يستفيقوا من غيبوبة ارتكانهم على الفتاوى فى كل صغيرة وكبيرة، أن يدركوا أنهم معنيون بممارسة حياتهم أكثر ممن وكلوهم كمفتيين لهم!
 
لو كان السائل حريا على دينه لهذا الحد، لوجد مئات الفتاوى المشابهة الصادرة من جهة رسمية أو من غيرها, تناسب فكره الذى هو محدد سلفا ولن يتغير بما سيصدر له من فتوى، ولوجد فى أرشيف الإفتاء بالصحف والمواقع المتخصصة وغير المتخصصة أيضا وبقنوات التليفزيون ومحطات الراديو، ما يروى ظمأ شغفه بالإجابة.
 
وما دام استطاع الوصول بسؤاله لدار الإفتاء، فهو كان بإمكانه الوصول لمئات الفتاوى السابقة بدار الإفتاء وغيرها، دون أن يتعامل ببراءة الأطفال ليروج لإشكالية اجتماعية سخيفة فى موعد سنوي لا يُخلف مر عليه من قبل مرات عديدة!
فهل هناك حاجة حقيقية للفتوى المتكررة بشكل يبعث على الملل؟!
 
لكن ارتبطت الفتاوى الدينية لدينا بمفهوم "القضية"، والقضية، أي قضية، في مجتمعاتنا تعنى الاستمرارية، استمرارية العرض دون إيجاد حلول، فالقضية التي ظهرت في العصر الأموي أو العباسي قد تظل قائمة حتى اليوم. والإبقاء عليها هدف مرجو أكثر مما يُرتجى حلها، لا تُطلب لها النهاية قدر ما يُراد الجدل بها، قيمتها هى إتاحة الاستعراض بتاريخها، فالقضية ليست مسألة فقهية تتطلب إجابة شافية، قدر ما هي تتطلب بقاءها كمشكلة قائمة، تتيح للبعض عرض تفاصيلها وأوجهها وتاريخها واستثناءاتها، ثم يستقر فى النهاية هؤلاء فوق أكتاف الجماهير بصفتهم الأكثر وعيا.
 
هؤلاء لا يقومون بإنهاء القضية ولا يريدون لها أن تُحل، كي يظلون أمام أعين المجتمعات نبراسا لهم، يحققون منهم الاستفادة والربح وعلو الشأن، وتبقى قضايا الفتاوى المتكررة والدورية نموذجا مثاليا لإضاعة الأعمار في مناقشة البديهيات والتوافه على السواء.