التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 11:02 ص , بتوقيت القاهرة

الشاب الذي أحب يارا

(1)
كُنا في عرض حكيّ، أحد الأشياء الحلوة التي يمكن أن تفعلها، أو أن تحضرها، خمسة حكائين، كل منهم يقصُ قصة حدثت معه، أو حكاية قرأها، أو شيئاً تعلمه، على مسرح صغير، وأمام جمهور يتراوح عدده بين الخمسين والسبعين شخص، كانت المرة الثانية لي، ولا زلت أصب تركيزي كله حتى يأتي دوري على مذاكرة قصتي، وكان دوره قبلي، ومع جملته الأولى، إستطاع أن يجذب حواسي كلها، ولم تفارقني إبتسامتي، حتى أنهى قصته.


لا يبدو أنه يتجاوز العشرين عاماً، كان متوتراً ولم يخفِ ذلك، أكد عليه في بداية حديثه، وأكد أن توتره و خوفه من المبادره أحد أكثر العيوب التي تؤرقه في شخصيته، والتي أضاعت عليه فرصاً عدة، و لكنه لم يندم على أحدها أبداً، حتى كان ذلك اليوم، الذي تمنى لو ضاع عمره كله، و لا تضيع هذه الفرصة.


"كنت قاعد في الأوتوبيس، جت قعدت جنبي، بنت قصيرة شعرها اسود وبنضارة وماسكة شنطة "هاند ميد" مكتوب عليها أنا حرة، جنبنا كان في ست معاها طفلة صغيرة عمّالة تعيط، فجأة لاقيت البنت وشها اتغير، وإتحولت. إتحولت لألف بلياتشو، عملت كل الحركات الممكنة، والبنت مبتشيلش عينها من عليها، ولا أنا، لحد ما البنت الصغيرة سكتت، وابتسملتها، مقدرتش أمنع نفسي إني أسالها عن اسمها. يارا.. قولتلها إني أول مرة أعمل كده، ابتسمت وقالت وأنا كمان، و فضلنا ساكتين بعدها، لحد ما نزلت، مقدرتش أمنع نفسي أبص من الشباك و اشاورلها، شاورتلي.. قولتلها بصوت عالي.. مبسوط إني شوفتك، قالتلي و أنا مبسوطة إني شوفتك، و ضاع صوتها.. وضاعت في الزحمة".


روحت البيت، كل اللي بفكر فيه إني لازم ألاقيها تاني، مقدرتش أمنع نفسي أكتب اللي حصل في بوست على فيس بوك، كتبته و نزلت، رجعت بعدها بكام ساعة، لاقيت مليون حد عامل شير والبوست متاخد سكرين شوت في صفحة الكومنت الفصيل، و ناس عاملة تاج لناس إسمهم يارا، و ناس تقولي إنت إزاي كده، و ناس تانية تشتمني، بقيت أبص في كل التاجات دي، يمكن ألاقيها، بس محصلش.. و ميأستش.


يارا.. بنت قصيرة شعرها إسود وبنضارة، وماسكة شنطة هاند مييد مكتوب عليها أنا حرة، وهلاقيها إن شاء الله في يوم".


صفق الحضور كثيراً، صفقت معهم، ولا زلت حتى اليوم أذكره فأبتسم، وأسأل نفسي وكلي شغف للإجابة، هل تبحث عنه يارا أيضاً؟ أتمنى.


(2)
لي صديقة إسمها يارا –برده-، قبل سنوات تقترب من الخمسة، كنا نسير أنا وهي وصديقتين –أشتاق إلى ثلاثتهم، لمَ نلتقِ منذ سنوات فعلاً، ربما قرأت إحداهن ذلك-، وإذا بيارا تقفُ أمام مكان يبيع "كرافاتات"، وتتفحصها بشغف وتقارن بين الألوان، ضحكنا جميعاً، كنا نعرف أنها ليست مرتبطة، فابتسمت هي وقالت "مرة فكرت كل ما أقابل حاجة تعجبني أشتريها و أشيلها للراجل اللي هتجوزه، وقت ما يجي بقى، بعد سنة، عشرة، هيبقى عندي حاجات كتير إشتريتها من أماكن مختلفة وفي مناسبات وأوقات مختلفة، لمّا يجي، هقوله شوف كنت بفكر فيك إزاي.. شوف افتكرتك فين؟".


ضحكنا طويلاً، وأضحك أنا كلما تذكرت، لا أعرف لو أن يارا نفسها لا تزال تذكر ذلك، ولكنني أذكره دوماً، وأفكر دائماً في فعله، كلما صادفني شيء يعجبني، للسيد سين، وأولاده أيضاً، أقترب من الأشياء، وأقلبها بين يدي في شغف، وأفكر في شرائها وكتابة تاريخ اليوم عليها، تماماً كما كانت يارا تفكر، ولكنني أتراجع في كل مرة، لمَ؟ لا أعرف.


لو يعرف الذين ننتظرهم، كيف ننتظرهم، وكيف نفكر فيهم خلال أيام الإنتظار أو ربما سنواته، ما تأخروا علينا أبداً.


(3)
البعض يمل الإنتظار، يغريه أول القطارات ظهوراً على رصيف حياته، فيركب، لا يهمه إن كان لا مكان مريح في هذا القطار، أو حتى إن كان هذا القطار متجهاً إلى غير الوجهة التي يرغب فيها، البعض يمل الانتظار، ويمكن أن يفعل أي شيء خوفاً منه، البعض الآخر، ينتظر ذلك الوعد، يمد يده في كل صباح ليلمسَ خيوط الشمس، فلا تدركها أصابعه أبداً، ولا يعرف يأساً على الرغم من ذلك، شيء ما في صدره يخبره أنه سيلمسها يوماً، وأنه إما أن يتحقق حلمه بتفاصيله الكاملة. وإما لا شيء.


مذ كُنا صغارا و لليوم، والأغنيات تتحدث عن حلاوة ذلك الحب الذي جاء فيه الحبيبُ مطابقاً للأحلام، جميعنا رسمَ صوراً، و كتب ألف حبكة و حبكة لكل المسارات التي يمتنى أن تتحقق بها الأمنيات، منا من كتب رسالات لأحباء مجهولين، و إنتظر، و لا يزال ينتظر اليوم الذي سيسلمها لهم يداً بيد، أو أسبغ على إبنة الجيران إسما و صفاتٍ تمناها من مجرد رؤيتها مصادفة مرة أو مرتين، منا من يحيى في قصص غرام وهمية مع شخصيات خلقها في خياله، و لا يفوّت فرصة يختلي فيها بنفسه، إلا ليحدث محبوبه الخيالي ذاك بصوتٍ عالٍ، يقص عليه تفاصيل أيامه، و ينسج بينهما حوارات وهمية، مذ كنا صغارا و لليوم، و نحن نقف على ناصية التمني، تمر قطارات و قطارات، و لكننا لن نركب إلا قطار الأحلام، و لكن ماذا لو أن الأحلام إن حدثت.. جاءت مغايرة لكل ما تمنيناه. ماذا لو أننا اكتشفنا أننا زهدناها من فرط ما إنتظرنا، فصار مجيئها كعدمه، وماذا لو أنها لم تأتِ أبدا.