التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 05:27 ص , بتوقيت القاهرة

الدولة وأساطير أخرى!

ثَمّة أنواع من الشامبانزي قادرة على التواصل عبر اللغة. رصد العلماء نداءات معينة يستخدمونها لتحذير بعضهم البعض مثل: "هناك أسدٌ قادم"، فإذا سُمع هذا النداء هَرع أفراد القبيلة الصغيرة إلى تسلق الأشجار. إنه نوع بدائي من استخدام اللغة، ولكنه يضع علامة استفهام كبيرة على تفرد أبناء البشر بهذه المزية الحاسمة التي يُقال إنها اللبنة الأولى التي قامت عليها الحضارة الإنسانية. فبدون اللغة لا ينشأ مجتمع، وبلا مجتمع تصير الحضارة مستحيلة.


اللغة إذن ليست ميدان تفردنا، بل الطريقة التي نوظف بها اللغة ونستخدمها هي أصل التميز والتفرد. أقصى ما يُمكن أن يفعله الشامبانزي باللغة هو التحذير من خطر. من شيء قائم وموجود (أسد مثلاً). البشر يستخدمون اللغة للتعبير عن أشياء غير موجودة. عن أفكار ومعان، بعضها حقيقيّ وبعضها خياليّ. نحن نستخدم اللغة للتعبير عن علاقاتنا ببعضنا البعض. من خلالها نتناقل المعارف والمعلومات بشأن من هو جدير بالثقة ومن لا ينبغي الوثوق به. من يُمكن أن يكون قائدًا للقبيلة ومن يتعين قتله أو طرده من المجتمع. تلك المعارف التي تنتقل عن طريق "النميمة" (وهي خِصلة لا أظن أن أي كائن حي آخر يُمكنه منافسة البشر فيها!) شكّلت الصمغ الذي رسّخَّ اللبنات الأولى التي قامت عليها المجتمعات الإنسانية.


من خلال "النميمة" بدأ البشر يروون حكايات. الحكايات بعضها حقيقيّ وبعضها أسطوريّ. الأساطير تربط البشر ببعضهم البعض. تجعل ممكنًا قيام المجتمعات الكبيرة لأنها تُسهل التعاون بين بشر أغراب ولكنهم يؤمنون بنفس الأسطورة. أهم تلك الأساطير قاطبة هو الدولة. 


الدولة كيانٌ لا وجود فعليًا له. ليس باستطاعتنا الحديث عن شيء ملموس اسمه دولة كما يُمكن الحديث مثلاً عن نهر أو بحر أو جبل. الدولة- في جوهرها- فكرة لا وجود لها إلا في عقولنا. هي "حكاية خيالية" اخترعها البشر، كما اخترعوا غيرها من الحكايات التي أصبحت في مجموعها تُسمى بالحضارة. تلك الحكاية بالذات أصابت نجاحًا باهرًا حتى أن كل إنسان على ظهر الأرض اليوم يعيش في ظل دولة. 


كل إنسان؟ هل هذا التعميم صحيح؟


الحاصل أن هناك اليوم استثناءً صارخًا من تلك القاعدة العامة. هناك جماعات كبيرة من السكان في الشرق الأوسط لم تعد تعيش في ظل دول. الكيانات السياسية التي كانت تجمعهم انهارت، وبالتالي فقد ارتدوا إلى مرحلة سابقة على "فكرة الدولة". ينطبق ذلك على ما يقرب من ستة ملايين إنسان يعيشون في ظل الخلافة الداعشية(بين العراق وسوريا)، وكذلك على خمسة ملايين شخص يقطنون ليبيا، وعلى ما يقرب من 25 مليون إنسان في اليمن، وأقل منهم قليلاً في سوريا.


ما الذي حدث؟ 


"الأسطورة" التي تجمع هؤلاء البشر لم تكن بالقوة بمكان بحيث تجعلهم يستمرون في العيش في ظل الكيان السياسي الذي يجمعهم.الصمغ الذي أفرزته الأسطورة لم يكن كافيًا ليحفظ اللبنات التي يقوم عليها المجتمع. النتيجة: التفسخ والتحلل والانهيار الذي نشهده.


في المُقابل؛ تبدو "أساطير أخرى" أقوى وأشد جاذبية. الخلافة الداعشية نموذج واضح لتلك النوعية من الأساطير. بطبيعة الحال، الخلافة الإسلامية في حد ذاتها ليست أسطورة، بل هي حقيقة تاريخية وحضارية. الأسطورة هي إمكانية استعادة الخلافة أو حتى الرغبة في فعل ذلك. 


المظلومية الشيعية أسطورة أخرى تتمتع بقدر ظاهر من الرسوخ والتغلغل. ما تعرض له الشيعة من ظلم هو حقيقة تاريخية (على الأقل من منظور مُعين للتاريخ الإسلامي). أن تُوظَف المظلومية بعد قرون لإقامة نظم سياسية وتشكيلات مُقاتلة على أساسها..تلك هي الأسطورة.


أحد أهم الاختبارات التي تكشف عن مدى قوة الأساطير هو استعداد الناس للموت من أجلها. كُلما رسخت الأسطورة كُلما صار الموت ثمنًا بخسًا لبقائها واستمرارها. ربما تكون الدولة هي أكثر الأساطير التي ضحى البشر على مذبحها بالملايين. برغم ما تنطوي عليه تلك الأسطورة من نزعة مميتة ودموية، اختار البشر الحفاظ عليها، بل وما زالت أغلبيتهم الساحقة مستعدة للموت من أجلها.


السبب؟ أن البشر اكتشفوا أنها تتفوق على جميع "الأساطير" السابقة عليها، من حيث ما توفره من إمكانيات لتنظيم الناس وإخراج أفضل ما فيهم. الدولة هي أعلى صور التنظيم البشري وأكثرها كفاءة. الإنسان فطن أيضًا إلى حل عبقري للتعامل مع وجهها الدموي: "أسطورة أخرى" أطلق عليها اسم الديمقراطية!


"أسطورة الدولة" تحتضر في الشرق الأوسط. تاريخيًا؛ توارت الأساطير وطواها النسيان لسبب بسيط: تراجُع الناس عن الإيمان بها، واعتناقهم لأساطير جديدة تحل محل القديمة وتزيحها. 


السؤال الذي سيحدد مستقبل الشرق الأوسط هو التالي: هل ما زال هناك عدد كاف من الناس مؤمن بـ"فكرة الدولة" ومستعدٌ للموت للدفاع عنها في مواجهة أساطير جديدة/ قديمة؟ سنرى.