التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 09:28 ص , بتوقيت القاهرة

فيالق الحمقى هجرت البارات

(1)


"لا شيءَ يُعْجبُني.. يقول مسافرٌ في الباصِ – لا الراديو ولا صُحُفُ الصباح, ولا القلاعُ على التلال... تقول سيّدةٌ: أَنا أَيضاً. أنا لا شيءَ يُعْجبُني. دَلَلْتُ اُبني على قبري، فأعْجَبَهُ ونامَ، ولم يُوَدِّعْني... يقول الجامعيُّ: ولا أَنا، لا شيءَ يعجبني. دَرَسْتُ الأركيولوجيا دون أَن أَجِدَ الهُوِيَّةَ في  الحجارة. هل أنا حقاً أَنا؟.. ويقول جنديٌّ: أَنا أَيضاً. أَنا لا شيءَ يُعْجبُني. أُحاصِرُ دائماً شَبَحاً يُحاصِرُني... أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا. أنا مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبتُ من السِّفَرْ".. محمود درويش وكأنه يتحدث عنا اليوم.


(2)


المتأمل في المشهد الحالي يراه مشوها بجدارة، فاقدًا لكل معايير المنطق وأحكامه، وأدبياته، ربما يستحق أن يكون "سمك لبن تمر هندي"، تداخلت الحدود، وبهتت الفواصل حتى توارى الحق خلف عباءة الباطل، يكفي أن تكون صاحب صوت أعلى أو لديك زمرة من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي كي تكتسب ثقلا وحيثية حتى وإن كنت تافها، أعظم ما تقوله هراء، وغاية إدراكك هباء.


تقمص شخصية العميق صاحب الرؤى والأفكار والمدافع عن أي ما يدافعون عنه، ضحية كل ما يشتكون منه، الرافض لكل ما لا شك في رفضه، الموافق نادرًا، صديق كل من يشيدون به، عدو كل من يهاجمون، العارف دائما ببواطن الأمور وخفايا الأحداث، المتوقع دائما لكل ما سيحدث حتى وإن لم يحدث فربما يوما ما يحدث، القارئ لكل ما كُتب، المقتني لكل كتاب، كن "ثوريا حتى وإن لم تع معنى الثورة، مثقفًا وإن لم تقرأ كتابًا، تقدميًا وإن أثبتت كل المواقف أنك رجعي القلب والقالب، نسويًا وإن كانت تلابيبك تفيض بالذكورية".


إليك سر الخلطة فلتدع أنك" ثوريا، مثقفا، تقدميًا، نسويًا، عميقًا"، يكن لك أتباع ومريدون، وتصبح أحد قادة تزييف الوعي، والواقع، ويهابك فيالق العالم الافتراضي.


كيف وصلنا هنا؟.. ربما يكون مفتاح الإجابة مع "غزو البلهاء".


(3)


البداية مع وسائل التواصل الاجتماعي، بلاء العصر الذي أفسد علينا كل مناحي الحياة، فمنذ اللحظة التي بتنا نتعامل مع هذا "الغول التافه" على أنه وسيط لاستقاء الأفكار، وتكوين الآراء، والاتجاهات، بل تعداها لبناء المعتقدات و"صنع أصنام ما بعد الثورة".


الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو يقول إن "أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء".. 


قديمًا روت لي جدتي، رحمها الله، أن قرويًا كان يعاني التهميش من أبناء القرية ووجهائها، فأراد أن يجبرهم على تذكره وأن يكون له وجاهة بينهم ومكانة، فقرر شراء وامتلاك "كيلة"- إحدى أدوات معايرة القمح لبيعه- وهي نادرة وجودها في القرية رغم الحاجة لها، وهدفه أن كل من يريد بيع قمح أو شرائه يستعين به هاتفا: "هاتوا كيلة أبو فلان" ومن حينها ذاع صيته وذكره، فما أشبه "الكيلة" بتلك الصفحات والحسابات التي يبحث أصحابها عن دور وكأن السوشيال ميديا أصبحت "كيلة" هذا العصر.


غزانا البلهاء وشوهوا الوعي والإدراك، صدقناهم وانتخبناهم قادة للركب وللمسير، أضاعوا الركب والمسير، وجنوا ثمارًا، وقبضوا الثمن، فودعناهم بحثًا عن آلهة جدد، وبلهاء أكثر حصافة.


(4)


تصاغر دور وسائل الإعلام أمام التشوية المتعمد وحملات تصفية الحسابات منذ الثورة، وحل بديلا جزئيا "فيالق الحمقى" ممن سيطروا على الاتجاهات السائدة بوسائل التواصل الاجتماعي، وباتت المبالغة "أسلوب حياة"، فمع تحول الجمهور لوسائل التواصل واعتبارها بديلا ولو شكليا لوسائل الإعلام، غابت القيم المرعية من "موضوعية- صدق- دقة"، وبات كلٌ يستأثر بمريديه، وأصبحت "المبالغة" أسلوب حياة، و"التضخيم" منهجا، و"التسطيح" سمة العصر، و"الاستقطاب" قدس الأقداس، فتحول مجموعة من "المرتزقة" إلى رموز ثورة، ومجموعة من "المراهقين" إلى قادة رأي، وتحول "البوست" إلى حقيقة غير قابلة للدحض.. وبين "المبالغة، والتضخيم، والتسطيح، والاستقطاب، والمرتزقة، والمراهقين"، نشأ جيل مشوه بات يخلط بين "الحق والباطل، المعارضة والخيانة، المعلومة والرأي، الحقيقة والكذب".


وطن يكافح لينهض وينفض عنه ترابا ودما يعوق مستقبله، كيف له أن يحقق مراده وسط كل هذا التزييف، ومستقبله بيد جيل يدفع ثمن تسطيحه، وتشويهه.


(5)


أولى خطوات تجاوز الأزمات، بيان الأخطاء والاعتراف بها، ومحاولة إيجاد الحلول، وتلافي تكرار الأخطاء، ولا أجد مناصًا من العودة كل إلى دوره ومحرابه، وأولها حملة واسعة لإعادة التعريف بوسائل التواصل الاجتماعي، وصياغة دورها وحصرها كوسيط قابل للنقد والدحض والتخلص من "غزو البلهاء"، ومحاربة "المبالغة، والتضخيم، والتسطيح، والاستقطاب"، والتخلص من أسطورة "المرتزقة والمراهقين". 


(6)


رسالة خارج السياق


حادث البدرشين وغيره يثبت فشل منظومة الأفراد في وزارة الداخلية، الأزمة منبعها ثغرات في اختيار الأفراد وتدريبهم وكيفية إعدادهم، والحل في نظرة أكثر مواكبة لأساليب التدريب وحداثة المعدات، ومنظومة جديدة لإعداد الفرد المقاتل، فما كان يصلح في فترات التدجين والاستقرار الأمني، لا يصلح في فترات مواجهة الإرهاب.