التوقيت السبت، 20 أبريل 2024
التوقيت 04:49 ص , بتوقيت القاهرة

حكاية قرية مصرية جعلت صلاح جاهين يكتب الشعر العامي

"عم صلاح جاهين"، هكذا بدون مناسبة ترددها بعد أن تقرأ رباعياته الشهيرة، وكأنك حصلت على صك قرابة هذا المبدع بكلماته التي ارتقت بالعامية لجلال الفصحى، في الشطرات الأربع حكايتك مع الحرية والحياة والموت، وسر الوجود، بلغة البسطاء قدم أعمق فكرة، ودومًا ينهيها بتعبير مصري عفوي جدًا: وعجبي!!، هذا هو دستور الحياة.. العجب العجاب.

في معظم السير الذاتية للزجالين وشعراء العامية، نجد الشعر العامودي بالفصحى هي البداية التي بدأوا منها، وقد انطلق صلاح جاهين في مشواره مع الشعر بقصائد الفصحى في مرحلة المراهقة، متأثرًا بالأحداث السياسية والاجتماعية التي أراد أن يعبر عنها، وكانت أول قصيدة عام 1946، كان في السادسة عشرة من عمره، متأثرًا بمظاهرات الطلبة في فبراير من هذا العام، قال فيها:

 كفكفت دمعي ولم يبق سوى الجَلَد

ليت المراثي تعيد المجـد للبلد

صبراً.. فإنا أسود عند غضبتنا

من ذا يطيـق بقـاءً في فم الأسد

وعندما استشهد بطل حرب فلسطين، القائد العسكري أحمد عبد العزيز، رثاه صلاح جاهين بأبيات:

أقبل الجلد وولى الجبناء

وبدا طيف المنايا في الفضاء

مارقًا بين الشظايا جاثمًا

بين الغام الدمار الدفناء

? ? ? 

استمر صلاح جاهين في الكتابة بالفصحى حتى عام 1951، في تلك الفترة كان شابًا في العشرين، فطن من البداية إلى ارتفاع نسبة الأمية التي تجعل من البسطاء لا يفهمون الفصحى، وفي ذات الوقت لديه يقين في قدرتهم على تذوق الكلمة، وفي إحدى الأيام رأى صور لفلاحي إحدى القرى التابعة لمركز نبروه في محافظة الدقهلية اسمها "بهوت"، وهم مساقين في طابور أذلاء مثل الحيوانات، عقابًا لهم على الثورة ضد ظلم الاقطاعيين، في تلك اللحظة التي اطلع فيها جاهين على الصور قرر أن يكتب ما يفهمه الفلاحين، بأمر الشعب كانت النقلة التي جعلته يقول: "لا فائدة لشعري إن لم اكتب بلغة هؤلاء الناس".

في مقر مجلة أنصار السلام، المحسوبة على اليسار، قدم صلاح جاهين قصيدته الأولى بالعامية "سنابل قمح"، متأثرًا بحادثة فلاحي بهوت، ووجد تشجيعًا من الفنان التشكيلي حسن فؤاد، ورئيس التحرير سعد كامل، وسكرتير حركة أنصار السلام يوسف حلمي، واتفقوا على نشر قصيدته الأولى، نوفمبر 1951.

القمح زي الدهب بينادي شرشرتك
وزرعة القطن مستنيه منقرتك
وجاموستك الحلوة يم المسقه وبقرتك
لازم لهم حضن والا اتنين حشيش أخضر
وتجيبهم الدار وتتعشى في مندرتك

يا عازق الأرض مين غيرك حايرويها
يا زارع الغلة يا منبت تقاويها
مين اللي حايضمها والا يدريها
لو كنت مانتاش هنا لا قدر الله يوم
ومين حايعلف بهايمك والا يسقيها

يابو العيال العيال ع الفرن نعسانين
حاضنين لعبهم جمال باركه وعرايس طين
والصبح يابو العيال حايقوموا فرحانين
لو كنت مانتاش هنا لا قدر الله يوم
كان مين ح يفرح قلوبهم بالمحبة مين

ليام دى ع الجسر بتفوت ناس ماهيش منا
تقلع الزرع وتبهدل فى نسواننا
وتخطف اللقمة من أولادنا وتهيننا
وكل ما يفوتوا تحصل معركة حامية
ونصبح الصبح والشهداء فايتيننا

ليام دى ع الجسر بيفوتوا انجليز أنجاس
سايبين بلادهم وجايين يدبحوا فى الناس
ما يعرفوش السلام وما يعرفوش الناس
بيحرتوا بالسيوف وبيزرعوا فى الدم
صدق اللى قال مجرمين لم عندهم إحساس

لو كنت عايز تعيش فى سلام وحرية
لو كنت عايز تعيش للزرع والميه
لو كنت عايز تعيش وتربى ذريه
قوم طهر البر بالخنجر وبالمدفع
من جنس دوده إنجليزي في أرض مصريه

? ? ?

عام 1959، كان صلاح جاهين في شارع القصر العيني يكتب أول رباعية، بعفوية بدأت الفكرة والكلمات تطاوع بنات أفكاره، وعندما وصل إلى مقر عمله كصحفي ورسام كاريكاتير في مجلة روز اليوسف، قرأ الكاتب أحمد بهاء الدين الشطرات الأربع، ومثلما انبهر بالرسام، أدهشه الشاعر الفيلسوف الشعبي صلاح جاهين، وطلب منه كتابة تلك المربعات اسبوعيًا، فور انتهاءه من الرباعية الأولى:

من إن كل الخلق من أصل طين

وكلهم بينزلوا مغمضين

بعد الدقايق والشهور والسنين

تلاقي ناس أشرار وناس طيبين

وعجبي!!

من وقتها بدأت رحلة رباعيات صلاح جاهين، كتب نحو 158 رباعية اسبوعيًا، توقف فقط عندما بدأ العمل في مؤسسة الأهرام، ثم عاود الكتابة عندما رأس تحرير مجلة صباح الخير، حتى جاء 1968، ونهوض الحركة الطلابية في 21 فبراير، تضامنًا مع قمع مظاهرات عمال حلوان، الغريب أن اليوم الذي خرج فيه الطلاب يطالبون بالحرية في عهد جمال عبد الناصر الذي عشقه جاهين، هو نفس اليوم الذي خرج فيه طلاب 1946 ضد الاحتلال، وهو ذات اليوم الذي جعل صلاح جاهين يكتب قصيدته الأولى، وبعد سنوات يكتب رباعيته الأخيرة، التي تحمل حيرته بين الزعيم والناس.

ولو انضنيت وفنيت وعمري انفرط

مش عاوز ألجأ للحلول الوسط

وكمان شطط وجنون مانيش عاوز

يامين يقول لي الصح فين والغلط

عجبي!!

مجرد ذكر الرباعيات يستحضر الذهن فورًا صلاح جاهين، رغم أن قالب الرباعيات كان موجودًا في التراث الشعبي قبل جاهين، بداية من فن الواو، ومربعات ابن عروس، حتى استاذه بيرم التونسي كتب الرباعيات، لكن جاهين كان الأقرب للناس، لأنه طعم شطراته بروح العصر، وطرح أفكار وجودية لم ترتبط بحدث تقادم مع الزمن.

? ? ?

ارتقى صلاح جاهين بالعامية التي تمر في دروب الفصحى، وكان يرى أن كاتب العامة مقتبس دائم للفصحى، والأزمة ليست في العامية والفصحى، لكن المأساة التي أشار إليها قبل وفاته تمثلت في انقاذ الوعي الشعبي من اللكنة الأمريكية المنتشرة في مصر، منتقدًا الكلمات الأعجمية التي انتشرت في المحلات والمطاعم – جاهين يتحدث في الثمانينات – ما يؤدي إلى تفريغ اللغة العربية من مضمونها، وقال: "اهبط إلى أول شارع ستقرأ كلمات أعجمية باللغة العربية مثل شوينج سنتر، وورد زاستافا، سنتر بلدنج، أوازسول"، واعتبر جاهين تلك الألفاظ الأمريكية المنتشرة في المجتمع المصري نوع من الشيزوفرنيا.