التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 07:05 م , بتوقيت القاهرة

صلاح جاهين والكاريكاتير.. الفن "نداهة بـ 100 وش" (صور)

يجلس الفنان حسين بيكار في مكتبه بكلية الفنون الجميلة، الضجيج يملأ المكان، يتزايد كلما اقتربت من مرسم قسم التصوير، حيث الكثير من الطلاب، بينما يحاول الرجل الفرار من كل هذا الضجيج، يباغت أذنه صوت خافت لطالب قصير القامة اسمه على سطور الأوراق الرسمية محمد صلاح الدين بهاء أحمد حلمي، لكنه عرف نفسه حينها بالاسم الذي عرفه به الوطن العربي: "أنا اسمي صلاح جاهين".

صلاح جاهين قرر هذا اليوم، الذهاب إلى بيكار لأخذ رأيه في مشكلته مع والده؛ إذ أجبره على الالتحاق بكلية الحقوق، آملًا أن يسير على خطاه في الدراسة ثم يصبح مستشارًا، لكن الشاب لم يطق كتب القانون وجمودها، انصرف إلى عالم الفن وقرر الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، وبعد أن حقق رغبته ظل الشعور بالذنب والخوف من إحباط والده لا يفارقان ذهنه.


أُعجب بيكار بشجاعة ومشاعر جاهين الصادقة، طلب منه مقابلة والده، في محاولة لإقناعه بأهمية الفن ودور الرسم في المجتمعات المتحضرة، أراد أن يطمئنه "نجلك موهوب وسيكون له مستقبل يشرفك، بل يشرف مصر أيضًا"، ضرب المثل بمحمود مختار ومحمود سعيد وبآخرين، لكن الأب لم يبدو عليه اهتمام بما قيل من معلم ابنه، رحل عنه في صمت ممتعضًا.

اختفى الطالب صلاح جاهين من كلية فنون جميلة، وكان بيكار ينتظر عودة ذلك الموهوب، لكنه كان ينفذ رغبة والده فعاد مرغمًا إلى سطور كتب القانون بكلية الحقوق مرة أخرى. 

صلاح جاهين مع والده
ربما كان والده لم يتخيل أن الطفل صلاح الذي كان طالبًا لا يجيد الرسم، ودرجاته في هذه المادة لا تتجاوز (4 أو 5) درجات على الأكثر من مجمل (10)، سيصبح واحدًا من أهم فناني مصر سواء برسم "الكاريكاتير أو كتابة الشعر"، ربما ظن أنه سيستطيع إبعاد صغيره عن لعبته التي شغلته منذ الطفولة مرة أخرى؛ كي يركز في دراسته فقط، ويسير على دربه.

لكن نداهة الفن التي داعبت أذن جاهين مرة بالتمثيل وثانية بالشعر وثالثة بالإلقاء ورابعة بالرسم، ظل صوتها يناديه من دون انقطاع، واستجاب لها ووجد ما يريد داخل بلاط صاحبة الجلالة "الصحافة"، القلم والريشة الآن معاً بين إصبعيه، عمل بجريدة "بنت النيل"، مجلة "روزا اليوسف"، جريدتي "التحرير"، "الأهرام"، وقدم رسومًا كاريكاتيرية كثيرة في الأعداد الأولى من مجلة "صباح الخير"، حيث تبنى موهبته رئيس التحرير أحمد بهاء الدين.

"ظاهرة التعدد ليست بهذا الاتساع.. أعمل في الصحافة ومتخصص في رسم الكاريكاتير.. ومن حين لآخر يخطر ببالي معني أريد أن أعبر عنه بالشعر.. مثل أن كنت مهندس في الحديد والصلب وهاوي شعر بالتأكيد سوف أكتب شعرًا إلي جوار عملي في الحديد والصلب.. وعندما أذهب إلي فيلم سينمائي وأجد أنني يمكن أن أضيف فيه أكتب وأساهم, ومن هنا كتبت الأغاني... ينقصني الرقص والإخراج ثم القصة والرواية"... من حوار قديم لصلاح جاهين مع جريدة الأهرام.


صلاح جاهين الذي تزوج أيضًا  من رسامة اسمها سوسن محمد زكي عام 1956، كان عندما يرسم "كاريكاتير" لا يفهمه أصدقاؤه بسرعة، لو بمجرد ابتسامة بسيطة ترتسم على شفاهم، يمزقه على الفور، ويعود لريشته مرة أخرى باحثًا عن رسمة يستقبله الجميع دون بذل مجهود كبير، وكان ينصحه أصدقاؤه بأن ينتظر ولو قليلًا.

ريشته التي رسمت كانت لاذعة مثل قلمه الذي نسج الأشعار، فإن وجدته في الشعر رجلًا حكيمًا يعرف الكثير عن الحياة، فستجده ساخرًا بخفة ظل من هذه الحياة عن طريق رسومات الكاريكتر، على سبيل المثال يرسم كلبًا يجلس أمام التلفاز ساخطًا على ما يقدمه الإعلام من مضمون لا يحترم عقل المشاهد.

مرة أخرى يوجه صلاح جاهين صفعةً قويةً لمجتمع غاب عنه الحب الصادق وانتشر بين سكانه الإدعاء، بخطوط بسيطة لا مغالاة فيها، يرسم شابًا يطالب والد الفتاة التي كان يرتبط بها إعادة كل كلمة حب وكل همسة شوق قدمها لابنتهم يوافق على الانفصال.



يقولون في الأمثال الشعبية "باب النجار المخلع" حولت ريشة صلاح جاهين هذا المثل لرسمة كاريكاتيرية تسخر من تبذير المصريين، فرسم فران يعطي لابنته أموالًا لتسوية "الكحك" بفرن آخر؛ حتى يعلم الجميع أنهم صنعوا كحك هذا الموسم، ويسخر من الكسالى المتواجدين على المقاهي دائمًا مدونًا "قهوة النشاط". 

لم تتوقف رسومات جاهين عند حد السخرية من العادات المجتمعية السيئة أو الفاسدة، بل اقتحمت ريشته عالم السياسة وانتقد بعض ما يقوله رجال الدين أيضًا، فسخر من تدني مستوى التعليم في مصر، برسم طالب يسأل المراقب خلال لجنة الامتحان أن يتهجى له اسمه كي يكتبه على ورقة الإجابة، وفي رسم آخر يظهر مركز لرصد الزلازل والموظف يوضح أن سبب الهزة الأرضية هو حركة أمعاء أهالي تلامذة الثانوية العامة.

وبسلاح الكاريكاتير خاض صلاح جاهين في معركة مع الإمام محمد الغزالي بسبب مطالبته بتحرير القانون المصري من التبعية الأجنبية والتشديد على حشمة المرأة، فهاجمه جاهين برسمة لشيخ منفعلًا  وقد سقطت عمامته من على رأسه، فطالب بإسقاط كافة القوانين الأجنبية وبينهم قانون الجاذبية الذي أسقط العمامة، وأصدر جاهين سلسلة كاريكترات يهاجم فيها أفكار الغزالي، ليرد عليه هو الآخر من أعلى منبره. 


السخرية التي تصاحب رسومات الكاريكاتير لم تكن أمرًا جديدًا على روح ابن شبرا صلاح جاهين، والدليل يرويه صديقه الرسام هبة عنايت؛ إذ ذكر أنه بينما كان يرسم عنايت خطوطًا لوجه فلاح دوَن جاهين عليها بقلمه جملة ساخرة "فلاح مصري ابن ناس... يستاهل ضرب المداس"، يعود عنايت  لريشته مرة أخرى ويرسم وجهًا هذه المرة لشخص أجنبي ليُدوَن عليها جاهين "عجوز إنجليزي ابن هرمة يستاهل ضرب الصرمة".


ومثلما مدح كثيرون رسومات الراحل صلاح جاهين، بينهم على سبيل المثال الكاتب الصحفي الكبير لويس جريس الذي وصفه بأنه واحد من عملاقة رسم الكاريكاتير في جيله، هاجمه آخرون بينهم صديقه الفنان جورج البهجوري الذي اتهمه باقتباس الكاريكتير من مجلات أجنبية كان يحضرها البهجوري نفسه من دول أجنبية.