التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 03:29 م , بتوقيت القاهرة

عاطف "الطيب" أو المغامر

"أعظم ما في عاطف الطيب إخلاصه الجنوني          لمهنة السينما" - المخرج محمد ياسين


المغامرة تبدأ من عند شيخ طيب صاحب لحية بيضاء، جاء من الصعيد إلى القاهرة بحثًا عن فرصة أفضل في الكسب والحياة، فتح منفذا لبيع الألبان وساعده ابنه عاطف الطيب في توزيع منتجاته على الزبائن.

المغامرة الأولى في حياة الفتى عاطف الطيب كانت سريعة أحداثها متلاحقة ككل رحلاته، لم يكتب لها النجاح، إذ لم يستطع الأب مواصلة نشاط بيع الألبان، وأغلق المنفذ؛ نظرًا لضيق ذات اليد، فاضطر الابن الذي تجول مع أسرته بين باب الشعرية والدقي وبولاق الدكرور للعمل في صالات الأفراح.

لم يمنع إفلاس أسرة الطيب الفتى عاطف من الحفاظ على شغفه بعالم الأفلام ولم ينسه حلمه بالالتحاق بمعهد السينما، إذ كان يوفر جزءًا من الأموال التي يكسبها للذهاب إلى الشاشة الكبيرة الساحرة ويجلس في صمت متأملًا أداء الممثلين،  متسائلًا "من الذي يوجه كل هؤلاء؟"، ثم يعود إلى المنزل مقلدًا الممثلين، وبمجرد أن انتهى من المرحلة الثانوية فالتحق بمعهد السينما ليرسم سينما كما كان يقول لوالدته وهو صغير.

بجوار إحدى نوافذ معهد السينما في منطقة الهرم، يجلس الشاب عاطف هادئًا قليل الكلام، ربما يتأمل أشعة الشمس أو أوراق الشجر، لكن الأكيد أن الشارع ما يدور به كان له النصيب الأكبر من تفكيره، فجعله يراقبه في صمت من دون الإصغاء إلى شرح معلمه لحجم الكادرات أو حركة الكاميرا وربما خط الحركة الوهمي، الأمر الذي أزعجهم منه وجعلهم يعتبرونه شخصا لا يهتم بالدراسة ولن يكون له أثرًا في عالم الإخراج خاصة أن مشروعاته كانت متواضعة المستوى بالمقارنة بزملائه، تمر الأيام ويتخرج عاطف ويخرج عن صمته بأعماله لا شيء آخر. 

 عاطف بين الشجاعة والجنون

في دنيا الفن نعرف ما يسمى بالمسرحية الشعرية التي تعتمد على النص الشعر الموسيقي في المقام الأول، لكن الطيب رجل يهتم بعالم السينما فقط، فاتخذ الشعر وقدمه لنا في أحد أفلامه مع الزمار الحزين صاحب الرحلة عبد الرحيم منصور، لتكن مغامرة جديدة وغير مألوفة في مجتمع لم يعد يهتم بالشعر، لكن الطيب قدمها عبر الشاشة 1985.   

على سجيته يسير في القرية لا يعرف معنى للكره "البريء" صفته بجانب السذاجة واسمه أحمد سبع الليل، يلتحق أحمد بعساكر الأمن المركزي خلال فترة تجنيده بأحد السجون ويتم استغلال سذاجته وجهله هو وآخرون في تعذيب المعتقلين سياسيًا، حتى يطلب منه تعذيب (حسين وهدان) واحد من أبناء قريته الطيبين الذي تعلم منه الكثير، فيرفض الأوامر ويحاول أن يشرح (حسين شاب طيب ليس من أعداء الوطن) ويثور رافضًا استغلاله، أن تخرج فيلمًا عن فساد السلطة بهذا الشكل مغامرة تستحق أن تعيشها لأنك عاطف الطيب.

يجلس الشاب المندفع الذي يتورط في قتل عشيق والدته (وليد.. شريف منير) بجوار زميله (بسام رجب) داخل السيارة، يستعدان لتصوير أحد مشاهد فيلم "ضربة معلم" عام 1987، بينما تسير السيارة بسرعة يجري بجوارها المخرج صاحب الأربعين عامًا بأقصى سرعته حتى ينتهي المشهد لا بصوت عاطف الطيب يقول (cut )، بل باستلقاء على الأرض ممسكًا قلبه الذي عانى من آلامه.

الأسمر أحمد زكي بجواره الفنانة هالة صدقي في إحدى فيلات منطقة شبرامنت، يلاحظان تعب الطيب الشديد ومروره بأزمة قلبية، يلح عليه البعض لإنهاء يوم التصوير من أجل أن يستريح، لكنه يصر على الاستكمال.

يتظاهر أحمد زكي بالتعب، بل يسقط أرضًا وكأنه دخل في حالة إغماء ليتمكن من إلغاء التصوير في فيلم "الهروب" عام 1991. 

وفي يوم آخر من أيام "الهروب" ظهرت روح المغامرة في روح الطيب الصقر الذي يرى ما لا يراه غيره، وكان التوتر يسيطر على أحمد زكي بسبب مشهده على سطح القطار ومشاهد المطاردة، أقنع الطيب زكي بإجراء بروفة على هذا المشهد بينما كان بسجل بالفعل، وعند البدء كان الطيب فوق سطح القطار الذي يسير بسرعته الطبيعية، الأمر الذي يمثل خطورة عليه.

"ناجي العلي" فلسطيني كان من المحرمات، ربما لأن  حجارة حنظلة موجعة كما أفلام الطيب، نظرًا لانتقاد الأنظمة العربية وحكامهم، وكان "ناجي" كان حجر أساس في غاية الأهمية بحياة المغامر الطيب، إذ تم اتهامه بالخيانة بسبب الفيلم هو ونور الشريف، حتى تدخل أسامة الباز مستشار الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، لكن الطيب لم يخف أو يتراجع عن إخراج أفلام تتعرض للحكومة أو للأنظمة وللفساد بعد عام 1992، مثل: "ضد الحكومة، كشف المستور، ليلة ساخنة".

"يجب أن نكون شاهدين على عصرنا، بلا تزييف أو تشويه.. فأنا أترجم ما يمكن أن يمس كل ما يعتمل داخل الناس، ويؤثر فيهم.. كل ما يهزهم في حياتهم اليومية..." من كتاب ثنائية القهر والتمرد.. عاطف الطيب لحسن حماد.

سامية المحامية اليسارية التي تحضر اعتصامات العمال وتتجول بين القطارات في فيلم "ضد الحكومة" 1992، كانت وجهًا آخر لمغامرة وتحدي جديد في دنيا عاطف، إذ فاجئ بشير الديك باختيار لبلبة لتأدية الدور وهي تقدم أدوار خفيفة كوميدية فقط في هذه الفترة ، لكن الطيب راهن على موهبتها وكسب الرهان، بينما يتعرض الطيب لفساد المسؤولين وتقاعسهم بالفيلم.

وفي أحد أفلام الطيب تأخر أحد الفنانين الكبار على موعد التصوير، بينما ينتظره المخرج وباقي فريق العمل، وعندما وصل إلى موقع التصوير طلب منه الطيب أن يرتدي ملابس الشخصية، ثم قال "فركش" وأنهى يوم التصوير كعقاب لهذا الفنان الذي كان بإمكانه أن يعتذر عن العمل أن يرفض التعاون مع عاطف، لكن عاطف لا يينتظر من المغامرة شيئًا سوى أن يعيشها كما هي! 


ففي عام  1994 عرض لنا وجهًا آخر لأصحاب السلطة والساسة الفاسدين من يدمرون الآخرين من أجل تحقيق أهداف ومجد شخصي من دون أي اعتبارات، وكيف أحيانًا يتم استغلال الصحافة في ذلك، فيلم "كشف المستور".

"ليل خارجي" مصحوب بالبرودة والإعياء هي الكلمات التي لازمت مشاهد فيلم "ليلة ساخنة" عام  1995، والذي راهن فيه للمرة الثانية على الفنانة لبلبة ولم تخذله.

"كان يقوم بتصوير مشهد ثم يضطره الإعياء إلى النوم على ظهره بعض الوقت، وبعدها يستكمل تصوير المشهد"-  بشير الديك

إصابته بمرض القلب جعلته يصر على تكثيف ساعات عمله، وصفه بـ "ابن موت" جعله في سباق وكأن العلاقة بين عمره وأفلامه علاقة عكسية، كان يشارك في معظم عمليات إنتاج أفلام، لدرجة إنه قيل إن عاطف ينتحر فيعمل 48 ساعة في اليوم الواحد، يبدأ يومه الساعة الـ 8 صباحًا فيبدأ رسم مشاهده ثم ينزل إلى الشارع الساعة الثانية ظهرًا، لإجراء معاينة قد تصل إلى عشر ساعات، ليعود إلى منزله منهكًا أو كما وصفوه "مقتولًا"، لكنه ترك خلال رحلة الـ 15 عامًا 21 فيلمًا

قبل تصوير فيلم "نزوة" بأيام يدخل مغامرة جديدة وأخيرة مع قلبه الذي تأثر بشكل كبير بكل المشاكل التي عاشها هو وآخرون، وعلى كرسي بعجل وأنغام موسيقى لم يسمع سواه دُفع إلى غرفة العمليات، ليرحل الطيب عن عالمنا يوم 26 يونيو 1995.