الشخصية المصرية


مرت مصر بالعديد من الأزمات والصعاب ونجحت مصر على مر التاريخ في التعامل مع كل ما صادفها من أزمات وتغلبت عليها في حين لم تستطيع دول أخرى وضعت في ظروف قد تكون مشابهة لما مرت به مصر في البقاء على قيد الحياة وزالت من الوجود. لم تتخل الهوية المصرية أبدا عن سمتها العام والتي كانت السبب الرئيسي لبقاء الدولة المصرية المستندة لقدرة الشخصية المصرية على صهر الأفكار والثقافات وهضمها، واستطاعت الهوية المصرية أن وتعضد نفسها دون المساس بحالة التنوع الثقافي الخلاق والمذهل في ربوع مصر المختلفة، ودون جور أو ابادات كما فعلت ثقافات أخرى، فشخصية مصر ظلت تدمج بين قيم أبناء المدينة والريف، التجار والعمال والموظفين، البدو والنوبيون والعرب، السنة والشيعة والقبط.
كانت مصر كل هؤلاء الوافدين منهم والمقيمين منذ بداية التاريخ، لكنها لم تعد كذلك للأسف، مصر التي رسمت نساؤها على جدران المعابد نجمع الأن أن ثمة أمرا ما قد أصاب الشخصية المصرية وأنها لم تعد كما كانت.
ربما حانت لحظة إعادة التفكير فيما أصاب الشخصية المصرية من تغيرات وتشوهات، فالمواطن المصري لم يعد هو الشخص الذي يتسم بالسماحة، المحب للغير الذي تحدثت عنه الكتب منذ قديم الأزل، لم يعد الشخص العابر للأديان والثقافات، لم يعد الفلاح الفصيح أو السني المتشيع أو القبطي الفرعوني، وكلها سمات انصهرت طبقاتها على مدار سبعة آلاف عامًا لتخلق ما عرف بالشخصية المصرية على مر التاريخ، ولم تعد الهوية المصرية تحمل بين طياتها طبقات كاملة من تاريخ الإنسانية والحضارة كما فعلت على مر العصور، بداية من تأسيس أول دولة في التاريخ على ضفاف النيل، مرورا بالهكسوس والرومان، وحتى الدولة القبطية والإسلامية ونهاية بالإمبراطورية العثمانية، وتأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على.
في اعتقادي أن السياسات التي تم انتهاجها بدءً من السبعينات من القرن الماضي، وأخصها سياسة الانفتاح التي كانت بمثابة كلمة السر التي أفقدت الشخصية المصرية لبريقها. فلم تعد الشخصية المصرية الحالية قادرة على هضم كل شيء واستخلاص أبدع ما فيه من فن وفكر ورقى ونبذ العنف والكره والقيم المعادية للإنسانية كما كانت من قبل، كما أننا لا يمكننا الفصل أيضا بين ما أصاب الهوية المصرية من تشوه وبين حالة الانهيار التي أصابت الطبقة الوسطى، والتي حملت عبء ضبط إيقاع المجتمع المصري وتسييد القيم الحميدة فيه على مر التاريخ.
من السهل أن نستمر في دفن رؤوسنا في الرمال، والادعاء بأن كل شيء على ما يرام، وأن ما اعترى الشخصية المصرية مجرد تشوه عابر، لكن تلك الهوية المصرية مهددة إلى الأبد ولن تعود مرة أخرى إلا بإدراك أننا نعاني أزمة استعادة الهوية المصرية، ولا سبيل إلى استعادتها إلا بصلة حقيقية مع ماضينا العظيم، تعميق معرفة الشباب بهذه القيم العظيمة والحرص على توريث هذا التنوع الثقافي الهائل لأبنائنا دون انحياز لثقافة أو تحقير لأخرى، وأعتقد أن أهم ما كشفت عنه ثورة يناير هي تلك الهوة العميقة بين الأجيال، حالة أقرب إلى القطيعة المعرفية بين جيل الأجداد وجيل الشباب، وضياع جيل الوسط بين هؤلاء وهؤلاء.
ولعل التساؤل الذي يفرض نفسه الآن، هو كيف يمكن أن نستعيد حالة المرونة وهيمنة الهوية المصرية وهضم كل تلك الثقافات الوافدة في ظل انتشار واسع لحالة التجريف الثقافي.
إن مهمتنا الأن هو استعادة تقاليد الشخصية المصرية الأصيلة وتنميتها من جديد وتوريث معارفها وحكمتها للصغار، وأن لا نستسلم لهذا الغزو المهول لبلايين المعلومات التي لا تبنى معرفة، ولا تشعر الإنسان إلا بمزيد من الضياع والتشتت، ولازال هناك دورا فعالا لكل الوزارات المعنية بتشكيل الوعى داخل الحكومة، والتي تستطيع تنقية كل وسائل التعليم الأساسي والجامعي من رسائل العنف الاجتماعي والتشوه التي أصابتها، كذلك الحرص على التعريف بالتنوع الثقافي المصري، من خلال تعديل مناهج المدارس لتتضمن القيم الإيجابية التي كانت تتسم بها الشخصية المصرية، وإعادة التوازن الطبيعي للحقب التاريخية في كتب التاريخ بمراحل التعليم المختلفة.
كما إن دعم الطبقة المتوسطة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا هو السبيل الوحيد لإنهاء حالة تسييد ثقافة العشوائية والعنف ومجتمع الغاب، حيث الغلبة للأكثر عددا ومالا، بدلا من قيم الاحترام وتقدير الفنون والرقي التي حملتها الطبقة المتوسطة على مدار التاريخ.