التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 02:38 م , بتوقيت القاهرة

"اللص والكلاب".. قراءة صوفية

كتب- مؤمن المحمدي:

منذ المشاهدة الأولى لفيلم "اللص والكلاب" قبل ثلاثين عاما، وهناك شعور بأن هذا العمل له أكثر من مستوى للتلقي، مرت سنوات طويلة قبل أن أستقر على قراءتي الخاصة، وكان المفتاح لهذا العمل بيتان من أشعار ابن الفارض.

ما شاهدناه على الشاشة (1962) هو نسخة أكثر تجريدا لرواية نجيب محفوظ التي تحمل الاسم نفسه، ورواية محفوظ هي رؤية أدبية أكثر تجريدا لقصة حدثت بالفعل لأحد اللصوص الذين امتلأت الجرائد في أواخر الستينات بأخباره وقصة انتقامه من زوجته ومحاميه، ومطاردة البوليس له، وتعاطف الجماهير معه، وسخطها على الصحافة التي تهاجمه والشرطة التي تريد رقبته.

في أحد مشاهد الفيلم، يدخل سعيد مهران على مولانا (فاخر فاخر) في تكيته، ويدور بينهما حوار عجيب، يتحدث مهران بالعامية، فيرد عليه الشيخ بالفصحى. يتحدث اللص عن مأساته، فيحقر "العارف" من شأن الدنيا. يجلس الطامح على الأرض، بينما الزاهد على كرسي مرتفع، وفي الخلفية تغني الحضرة بيتين لسلطان العاشقين، على لحن أيوب المصري، نجح أندريا رايدر أن يدمجهمها في نسيج موسيقى الفيلم:
وا حسرتي ضاع الزمان ولم أفز
منكم أهيل مودتي بلقاء
وكفى غراما أن أبيت متيما
شوقي أمامي والقضاء ورائي

ثم يقطع الإنشاد صوت الكلاب التي تطارد سعيد مهران.

من خلال هذا المشهد يمكن أن نعيد قراءة الفيلم، الذي يبدأ بالإغواء، حواء (نبوية) تغوي مهران بالخطيئة، التي زرعها فيه إبليس (رؤوف علوان)، أما الحية التي يرد ذكرها في قصة طرد آدم من الجنة، فكانت عليش سدرة، وكأنما كان صناع الفيلم يريدون ترك مفاتيح لهذه الرؤية، يرد وصف عليش بالثعبان على لسان طرزان (صلاح جاهين).

يدخل ابن آدم إلى المنطقة المحرمة (الفيلا التي يريد سرقتها)، ويرتكب السرقة، ثم يرى تفاحة، يقضم منها قضمة واحدة، فتعلو أصوات كلاب الشرطة التي تقتاده إلى السجن. ينكره بالطبع معلمه، والموسوس الأول له، ولأنه هو من رسم الخطط يفشل سعيد في الانتصار عليه، كما ينتصر على الآخرين، وتخونه حواء، وتنكره ابنته (أفعاله) فيبدأ رحلة الانتقام والمطاردة والهرب والتخفي.

في رؤية كمال الشيخ لرواية نجيب محفوظ، والتي كتبها صبري عزت وعلي الزرقاني، ستجد الأوفياء فقط هم الخطاؤون، الخارجون على "القانون"، وهم قليلون على أية حال: نور، المومس النبيلة المستعدة لافتدائه مهما كانت التضحيات. طرزان صاحب الكرخانة، صاحب صاحبه. ولاحظ هنا الأسماء: نور وطرزان (ابن الطبيعة).

أما "القانون" نفسه، ومن يمثله، فهو لا يهتم بالعدل والحق والخير والجمال، هو فقط يهتم بالنظام، ولو كان صوريا. وحسب الجملة التي وردت على لسان عليش سدرة (زين العشماوي) شريك زوجته في الخيانة: ده القانون يا نبوية، والقانون نغمته بياتي.

كان يمكن لسعيد بعد خروجه من السجن أن يعيش حياة مستقرة، بعد أن تعلم "صنعة شريفة" في السجن، وكان يمكن له أن يهرب بمساعدة "نور"، لكن ما يدفعه لمواصلة طريقه هو الشوق، الافتقاد، الافتقار، الوعد، المكتوب، إنه يرى في نفسه أنه كل الناس، وحامي حماهم، إنه "الدموع اللي تفضح صاحبها".

الانتقام هنا ليس غاية، إنه ليس "كونت ديمونت كريستو"، الذي يخرج من السجن ليتخلص من شركاء الجريمة، لأن سعيد مهران لم يخرج من السجن أصلا، وهو ما نراه في كل كادر (مدير التصوير عبد العزيز فهمي)، إذ استغل كل شباك/ سلم/ باب ليرسم بظلاله قضبانا، وكأن سجن سعيد هو جسده، وتحرره الوحيد بالموت الذي تحقق في النهاية، لكنه تحقق بينما يحاول تطبيق العدل، العدل كما يفهمه هو، لا كما يفهمه الضابط أو الشيخ. وهو ما يجعلنا نتساءل: أيهما المتصوف، الشيخ أم المخطئ؟ وأيهما أكثر بشرية، اللص أم الكلاب؟