مولد سيدي "تحرش"

هناك طريقتان للحياة في هذا الجزء من العالم، الطريقة الأولى هي "الفقاعة". أن تصنع عالمًا يخصك، وتحيط مجتمعك وأفكارك بسياج لا يسمح بمرور مالا يتوافق مع قوانينك.
الطريقة الثانية، والتي يدعي الكثير أنها خيارهم المُفضل، هي مواجهة "الحقيقة". لكن للأسف الحقيقة مؤلمة ولا يُدركها كاملة حتى أعقل العقلاء، مما يجعلنا جميعًا، مهما حاولنا، من صناع الفقاعات.
وفي الفقاعة، كل شئ مُطلق. كل "ثوابت" أفكارك بديهيات. وكل البديهيات يقين لا يقبل الشك. تساعد الفقاعة على سهولة تقييم المواقف واتخاذ القرارات. تحتمل الحقيقة "حقان" و"باطلان" لكن تختفي نسبية الحقيقة داخل الفقاعة وتصبح وجهات النظر مطلقة. فأنت الحق ومادون فقاعتك الباطل.
تبدأ الفقَّاعات كحلول فردية للتعامل مع عدم "شمول" الحقيقة وقسوة ألمها، لكن تتحول الفقّاعة لجزء من المشكلة حين تصبح مظلة يجتمع تحتها أصحاب نفس "التخيلات".
تأخذ العلاقة بين الفقاعات المختلفة شكل الصراع بين الحق والباطل. يبدأ في العادة بالتنابز وقد ينتهي بالعنف.
والعنف أشكال، فالحروب عنف. التفجيرات الانتحارية عنف. تراشق جماهير الكرة بالحجارة عنف. التمييز ضد طائفة من المجتمع عنف. وفي الأمثلة السابقة يلجأ أحد الأطراف للعنف للدفاع عن ثوابت فقاعته، مرة دفاعًا عن الحرية ومرة الإسلام ومرة تميز فريقه ومرة أفضيلة طائفته.
ولإن المرأة "نصف الدنيا" فهي أيضًا نصف صراع الفقَّاعات.
يأخذ العنف ضد المرأة أشكال مختلفة، ومن أكثر أشكاله إنتشارًا، والذي تتعرض له معظم النساء، "التحرش الجنسي". والتحرش الجنسي مصطلح إعلامي فضفاض يضم تحته ثلاث أنواع من العنف الجنسي تجاه النساء.
الأول: التحرش اللفظي (catcalling)
وفيه يقرر "ذكر" ما توجيه "ألفاظ" أو "صفير" أو "بسبسة" لأنثى لا يعرفها.
الثاني: الاعتداء الجنسي (Sexual Assault)
وفيه يقرر "ذكر" ما أن يلمس أنثى متعمدًا لغرض جنسي. يستوي في ذلك المتخفي في الزحام للمس مؤخرات النساء إلى المتخفي وراء سلاح مرغمًا أنثى على علاقة كاملة.
الثالث: المضايقات الجنسية (Sexual Harassment)
وهو أن يقوم ذكر باستخدام نفوذه الوظيفي (مدير وموظفة، مدرس وطالبة .. إلخ) لإجبار أنثى على تقديم خدمات جنسية، وإلا يعطل لها مسارها المهني.
تختلف النظرة لأسباب العنف وتقدير ضرره وطرق علاجه بإختلاف الفقاعة (الثوابت ووجهات النظر).
ففقَّاعات المجتمعات المحافظة تُجرم التحرش الجنسي، ولكن تعتبره جريمة ذات فاعلين. والفاعل الأكثر إثمًا هو المرأة المتحرش بها.
فتبعًا لتفسيرات الفقاعات المحافظة، التحرش اللفظي ما هو إلا مجاملة للمرأة الجميلة وهي المُخطئة، لأنها لم تخفِ جمالها، والاعتداء الجنسي جريمة تتحمل إثمها المرأة التي لم تلتزم بزي محتشم أو تواجدت في مكان منعزل أو حتى ساقها حظها السيء لظروف بدت لذكر ما أنها ملائمة لارتكاب جريمته. أما المضايقات الجنسية في مجال العمل فلا تعترف بها فقاعات المجتمعات المحافظة لأن كما هو معروف "هي عايزة كده!"
في وجهة نظر المحافظين، التبريرات منطقية وما يتبعها من لوم مستحق وما يقترحونه من حلول كافٍ. إلا أن وجهة النظر هذه تُغفل كما حال باقي الفقَّاعات نسبية الحقيقة.
ففي الحقيقة قد تكون ثوابت تلك الفقَّاعات المحافظة هي السبب الرئيسي وراء ظاهرة العنف تجاه النساء. فالعنف تجاه النساء لا ينتشر في المجتمعات المنغلقة تمامًا ولا المجتمعات المنفتحة تمامًا. تتنشر الظاهرة في مجتمعات البين بين. حيث تتصارع الفقاعات المحافظة مع الفقاعات التحررية المؤمنة بأن كل بني آدم سواء.
في مجتمعات البين بين، تهدد المرأة مكانة "الذكر" المحجوزة في الفقاعة المحافظة. تهدد عرشه الموروث بمشاركته فيما كان يومًا ساحته الخاصة. التعليم والعمل وحتى الإعالة. تنازع المرأة الرجل في مُلكه. تتنزع ما يراه، وتراه فقاعته، حقًا مشروعًا.
اهتز عرش "الذكورة" ولم يبقَ لها من التفوق سوى التفوق الجسدي، فأصبح العنف هو سلاح بعضهم المُفضل لإثبات استمرار مجد يأفل أو لزعزعة استقرار عرش بازغ.