التوقيت الأربعاء، 02 يوليو 2025
التوقيت 08:08 ص , بتوقيت القاهرة

مصر والنيل وسياسة الجزرة والعصا

قامت حضارة مصر العظيمة على ضفتي نهر النيل، وكانت بمثابة منارة للعلم والثقافة للعالم أجمع ولألاف السنين. وكان المصريون القدماء يقومون بالعديد من القوافل التجارية والاستكشافية، والرحلات والغزوات العسكرية، للهضبتين الاستوائية والإثيوبية، لتوطيد وتعزيز العلاقات السياسية والتجارية، والثقافية، وتأمين مصادر النهر؛ وفي الوقت نفسه، أقاموا السدود والقنوات لتوفير مياه الري للزراعة، التي انتشرت في ربوع البلاد.

وفي العصر الروماني، انتشرت الديانة القبطية في مصر، وامتدت منها لإثيوبيا؛ وكانت الدولتان تتبعان معًا بطريرك الكنيسة المصرية. وتلى ذلك، العصر الإسلامي، ثم المماليك، ثم العائلة العلوية. وكانت العائلة العلوية مهتمة بتنمية النهر، وإقامة القناطر الكبرى، وشق الترع الرئيسة والريَّاحات، مما أدى إلى تضاعف المساحة الزراعية للبلاد.

ولتأمين تدفق مياه نهر النيل إلى مصر، قام محمد علي، عام 1820، بالزحف جنوبًا إلى السودان، وأسس مدينة الخرطوم؛ وأخضع جنوب السودان، وأجزاء كبيرة من أوغندا. واستمرت الحملات العسكرية المصرية في عصر الخديوي إسماعيل، لتمتد الرقعة المصرية إلى إريتريا والصومال وأوغندا، وبعض ولايات جنوب السودان، وغرب إثيوبيا. وانتهت هذه الفتوحات بهزيمة للخديوي إسماعيل في إثيوبيا، عام 1876، توقفت بعدها التوسعات المصرية في شرق أفريقيا وحوض النيل. وتم عزل الخديوي اسماعيل. وبعد خمس سنوات، عام 1881، ثار الجيش المصري بقيادة الزعيم أحمد عرابي على الأسرة العلوية، وتلى ذلك ـ بعام واحد ـ قيام الإنجليز باحتلال مصر، عام 1882.

وأثناء فترة الاحتلال البريطاني، كانت أولوية الإنجليز التحكم في قناة السويس كأهم ممر مائي دولي. إلا أن اهتمام وتجليل المصريين لنهر النيل، أجبر بريطانيا على دعم جهود الدولة المصرية في بناء منشآت الري الكبرى في الصعيد، مثل خزان أسوان، وقناطر إسنا، ونجع حمادي، وأسيوط، وكذلك شق الترع الرئيسة في صعيد مصر بأرواح المصريين. وزادت المساحات الزراعية، وتضاعف الدخل القومي للبلاد.

وحاول الإنجليز مساعدة مصر في زيادة إيرادها المائي من نهر النيل؛ فقاموا، في نهاية العقد الأول من القرن الماضي، بمحاولات جادة لتطهير منطقة السدود، بجنوب السودان، من الحشائش.. وكانت هذه هي المحاولة الأولى لحفر قناة جونجلي. ولكن توقفت هذه الجهود، مع بداية الحرب العالمية الأولى. وامتد الاحتلال البريطاني جنوبًا ليشمل السودان، وبعض دول الهضبة الاستوائية (أوغندا، وتنجانيقا ـ تنزانيا حاليًا ـ وكينيا).

ولترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا، ولتنظيم استغلال مياه نهر النيل، قامت بريطانيا العظمى في ذلك الوقت، نيابة عن مصر والسودان، بعقد اتفاقية 1902، مع إمبراطور إثيوبيا مينليك الثاني، والذي تعهد فيها الأخير بعدم إقامة أي منشآت، على بحيرة تانا والنيل الأزرق ونهر السوباط، إلا بموافقة بريطانيا والسودان المصري البريطاني. وقد قام البرلمان الإثيوبي، وقتذاك، بالتصديق على هذه الاتفاقية.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانتصار الحلفاء فيها، طالب المصريون بالاستقلال، بعد الدعم الكبير الذي قدمته مصر، من الرجال والعتاد، لمساندة ودعم بريطانيا في هذه الحرب. وقام الإنجليز بنفي سعد زغلول ورفاقه إلى خارج البلاد، وانتفض الشعب المصرى بالثورة، عام 1919، وقام الشعب المصري في كل حي وشارع ضد الإنجليز. واتحدت في هذه الثورة الكنيسة والمسجد، وكان الشعار السائد هو "الهلال والصليب"، وكان للمرأة المصرية دورًا بارزًا في هذه الثورة المجيدة، والتي فقدت فيها مصر العديد من رجالها وشبابها ونسائها. ورضخ الإنجليز لإرادة الشعب، وحصلت مصر على استقلالها، وقامت بإعداد دستورها عام 1923.

وكان الإنجليز دائمًا يعون ويرددون أنه من يتحكم في النيل يتحكم في مصر، وبعد استقلال مصر كان انتقام الإنجليز بأن شيدوا سد سنار على النيل الأزرق في السودان، عام 1925، وحفروا الترع وأصلحوا الأراضي، بمنطقة الجزيرة، لزراعة القطن وتصديره إلى المصانع البريطانية، بدلًا من القطن المصري، وضُرِب الاقتصاد المصري في مقتل.

وقامت بريطانيا، كممثلة عن السودان ودول الهضبة الاستوائية، أوغندا وتنجانيقا وكينيا، بعقد اتفاقية 1929 مع مصر المستقلة، وهي في الأصل اتفاقية حدودية لدول الهضبة مع السودان، وكانت الاتفاقية تنص على عدم إقامة أي مشروع على النيل، أو روافده، أو البحيرات الاستوائية، إلاَ بعد إخطار وموافقة مصر. ونصت الاتفاقية على حقوق مصر والسودان التاريخية من النهر، رغم أنه قبل إقامة سد سنار وزراعة منطقة الجزيرة في السودان، كانت مصر هي الدولة الوحيدة في حوض النيل التي تعتمد على مياه النهرالجارية، وكانت بقية الدول تعتمد على الأمطار.

وتنص الاتفاقية على أن حق مصر التاريخي في مياه نهر النيل، 48 مليار متر مكعب سنويًا، وأن حق السودان 4 مليار متر مكعب سنويًا، بينما كان يُفقَد حوالي 32 مليار متر مكعب سنويًا إلى البحر المتوسط.
ونستخلص من هذا السرد التاريخي، أن الغرب يعلم جيدًا أهمية نهر النيل لمصر، ويستخدم سياسة الجزرة والعصا. فإذا كانت مصر تدور في الفلك الغربي، فلا مانع من المساعدة في إقامة المنشأت ومشاريع الري، أما إذا خرجت مصر من هذا الإطار، فيتم تشجيع دول الحوض على إقامة السدود والزراعة المروية، بالرغم من وفرة الأمطار هناك. وهذه المواقف المعادية رأيناها مع بناء السد العالي في القرن الماضي، ونراها الآن مع إشكاليات اتفاقية عنتيبي وسد النهضة الإثيوبي.