التوقيت الأحد، 05 مايو 2024
التوقيت 10:59 م , بتوقيت القاهرة

فتحي قورة "بلا قافية".. بهلوان الوزن والقافية

هو أحد أهم شعراء الأغنية في العصر الحديث، صاحب القدرة غير المحدودة في العزف على أوتار الحروف، لاستخراج أكثر الكلمات صعوبة وسهولة في وقت واحد، قدرته على أن يفاجئك من حيث لا تنتظر فلا تملك سوى أن تقول "الله" بعدما تسمع كلماته، هو نفس الشخص الذي كتب مونولوج "حبك شمعة" لفنان الشعب محمود شكوكو قائلا فيه "من يوم حبك وأنا مسكين/ كل ما أبعت شوق وحنين / بترجعهوملي وتقولي / غيرهوملي بقمر الدين/ وكل يوم على دي الحالة / ده قلب ده ولا بقالة / مهما هواك يديني دروس ما بحرمشي" وهو الشخص الذي كتب أغنية إن راح منك ياعين للدلوعة شادية، صاحب القدرة الأكبر على التنوع والتلون في كتابة الأغنية أو الذي قال عنه الأديب الكبير يحيى حقي "بهلوان الوزن و القافية".


البداية 19 أكتوبر عام 1919 من الشرقية حيث كان الحاج محمد أبو قورة في انتظار مولوده الجديد الذي أطلق عليه اسم "فتحي"، هو نفس الشاب الذي يجد اسمه بعد 25 عاما على شاشة السينما كمؤلف وكاتب أغاني في فيلم "نور الدين والبحارة الثلاثة" من بطولة علي الكسار والمطرب إبراهيم حمودة وإخراج توجو ميزراحي، ولكن هل كانت البداية من السينما فعلا؟.


الأكيد أن البداية كانت قبل ذلك، ولكن لا معلومات مؤكدة عن بداية فتحي قورة؛ فبين التنقل في الفرق المسرحية والكازينوهات كشاعر وصولا للسينما رحلة لم يتحدث عنها أحد، الأهم فيها أن في تلك الفترة كان هناك عملاقين في كتابة الأغاني هما "بديع خيري وأبو السعود الإبياري"، إضافة إلى الشاعر الشاب وقتها والذي احتكره عبد الوهاب "حسين السيد" وبالطبع بيرم التونسي، وسط كل هذا الكم يطل علينا فتحي قورة بلون مختلف تماما عنهم.



في دنيا المونولوج


ربما كان أصعب مضمار يمكن أن يسير فيه فتحي قورة في هذا الوقت أو حتى بعدها هو المونولوج؛ فأبو السعود كان كاتب مونولوجات لا يشق له غبار، إضافة إلى أنه كان الكاتب الأول لفرقة بديعة مصابني سواء في المسرحيات أو الأغاني أو الاسكتشات، ولكن حينما تسمع مونولوج مثل مونولوج صاحب السعادة تستطيع أن تميز بصمة أبو السعود الإبياري بمنتهى الدقة، هي الميل الأكثر للمواضيع الاجتماعية ذات النزعة الإصلاحية وهو أمر عرضه لموقف سخيف مع بديعة مصابني حينما انفعلت عليه بعد اسكتش الفرسان الثلاثة والذي قدمه مع إسماعيل ياسين على مسرح بديعة مصابني، ولكنه من الإجحاف الشديد حصر الإبياري في هذه المنطقة ولكن تلك النزعة موجودة و أيضا طريقة أبو السعود في تركيب الإفيه مختلفة اختلافا كليا عن طريقة فتحي قورة، فأبو السعود يمهد للأفيه فانت تتوقع أن الشطرة القادمة تحمل إفيه وتنتظره بالضبط كمن يقف على مسرح، ولكن حينما تسمع مونولوج "حما + حما" لإسماعيل ياسين تدرك أن هذه الكلمات ليست من نسج الإبياري بل هي بصمة قورة المميزة للغاية، قورة المتنوع المختلف والذي يمكن أن يناقش أكثر من موضوع في عمل واحد، طريقته في إلقاء الإفيه مختلفة فهو مثل النحلة يلدغك فجأة ومن حيث لا تحتسب ولا يمهد لإفيه فهو يلقيه كمن يجلس مع أصدقائه على المقهى، فتشعر أنه أُلقى دون حسابات كثيرة وبعفوية شديد.



قورة في المونولوج كان فارسا لا يشق له غبار يعرف جيدا كيف ومن أين ومتى تؤكل الكتف، كان شاعرا برتبة كوميديان محترفا يعرف كيفية تركيب "الإفية" الغنائي ومتى يطلقه وأين وكيف يمهد له، والأمثلة على ذلك لا حصر لها فمثلا مونولوج محمود شكوكو " حبيتك حبا جما" من ألحان محمود الشريف، البداية أصلا هو دمج الفصحي بالعامية بمنتهي السهولة والبساطة التي ترتشف بها فنجان قهوة، فتحي قورة بالفعل لا تشعر أنه يبذل مجهودا في تركيب الجمل الشعرية لتكون مونولوج في غاية البساطة والعمق والطرافة والإبداع كأنه بالفعل كما يقال "ينهل من نهر لا ينضب أبدا" فيقول قورة " حبيتك حبا جما/ والروح بهواك مهتمة/ وإزاى يا جميل تهجرني إلى أجل غير مسمى/ معرفش إزاى حبيتك وصبحت بهذا الشكل / اللى اعرفه إنى لاقيتك في القلب بتاكل أكل / ودخلته منين معرفشي/ وقالولي تعالي ما تخافشي/ بكرة ها يصرف ماصرفشي / ووقعت محدش سمى/ وإزاي يا جميل تهجرني إلى أجل غير مسمى"  وفي كوبلية أخر من نفس المونولوج يقول " قسمتي و ياك ونصيبي / يا شاغلنا ولا انت دار بي / قربك ده جميل يا حبيبي / وبعادك ده غازات سامة / وازاى يا جميل تهجريني إلى أجل غير مسمى"، لنأتي بألف شاعر قدموا المونولوج الفكاهي عبر التاريخ ونتحداهم ان يقدموا لنا تلك التراكيب و الجمل الشعرية التي قدمها قورة في هذا المونولوج وأراهن أن الجميع سيقف طويلا محاولة فهم كيف استطاع قورة أن يضع تلك الكلمات بجوار بعضها بهذه البساطة لتكون تلك الجمل التي تجعلك تسمعها و انت مبتهج ومبتسم ومندهش من تلك السهولة التي تنساب بها الكلمات.



ربما قدر المظلومين أن يجتمعوا سويا فشكل فتحي قورة والمهدر حقه الموسيقار محمود الشريف ثنائي موسيقي هام جدا فمن مونولوجات شكوكو يخرج الثنائي ليقدموا مع عبد المطلب عدد من الأغنيات الرائعة منها ودع هواك وما بيسألش عليا أبدا، لتقف للحظات تتأمل قدرة قورة ومحمود الشريف على التنوع وتقديم أكثر من نوع غنائي مختلف، بنفس البساطة والسلاسة التي تشعر بها دائما والدهشة التي تتملكك حينما تسمع كلمات قورة.


البارودي الموسيقي



البارودي الموسيقي


 


قورة لم يقف عند شكوكو فقط في المونولوج فتعامل مع الجميع بلا استثناء فقدم لإسماعيل ياسين مونولوجات ربما يخر إلى ذهني حاليا مونولوج أيظن الذي كتبه قورة على نفس كلمات أغنية أيظن لنزار قباني والتي غنتها نجاة الصغيرة ولحنه محمد فوزي على نفس اللحن الذي قدمه محمد عبدا لوهاب لنجاة، استخدم قورة لعبته المفضلة في تحويل الأغاني الكلاسيكية الطربية إلى مونولوج ساخر لا يقل جمالا وإبهارا عن الأصلية.


تلك اللعبة التي لعبها قورة مع ملحنه المفضل و شريكه الفني منير مراد الملحن المعجزة، فلم تسلم اغنية من سخرية فتحي قورة فمثلا أغنية حكيم عيون لمحمد عبدالوهاب و التي كتبها حسين السيد حولها فتحي قورة وعبد العزيز محمود بصوت شكوكو إلى مونولوج حكيم ذوات، فأصبحت كالاتي " حكيم ذوات الأربع رجلين/ ومابشتغلش نهار الأتنين/ اعرف عياهم يجي منين / واعرف كمان يندبحم فين" وحينما يتعرف فتحي قورة على منير مراد يجده يهوى نفس اللعبة ليقدم الثنائي ما اسماه الصديق " شريف حسن" المزاح الموسيقي بينما أحب أن اسمه " البارودي الموسيقي" وهو إصدار نسخة ساخرة من اغنية كلاسيكية"




فعبد الوهاب وحسين السيد كانا مادة خصبة للعبة قورة ومنير مراد ربما كان المثال أبرز لهذا الـ"شكل" حينما قدم فتحي قورة ومنير مراد عام 1975 استعراض قيس و ليلي كصورة ساخرة من أوبريت " مجنون ليلى " الذي كتبه امير الشعراء أحمد شوقي ولحنه وغناه محمد عبدالوهاب و معه اسمهان، وهذا مثال ليس إلا فأكم تعرض الثنائي لألحان عبدالوهاب و كلمات حسين السيد مثل ما فعل منير مراد في استعراض الكورة في فيلم نهارك سعيد حينما خرج عن الاستعراض ليغني بطريقة عبد الوهاب " قوم بقى مالك شوط بشمالك وإنسي الدنيا وريح بالك إوعى تفكر في اللي جرالك" وهي الأغنية التي كتبها حسين السيد ولحنها و غناها عبدالوهاب في فيلم رصاصة في القلب عام 1944.



أيضا كمال الطويل لم يسلم من الثنائي مثلما أشار شريف حسن في مقاله عن منير مراد وفتحي قورة والذي نشر في موقع كسرة بعنوان "منير مراد وفتحي قورة و اللعب مع الكبار" حيث اصطدم قورة و منير بحسين السيد و كمال الطويل وعبدالحليم حافظ في اغنية حكاية شعب، وذلك من خلال مونولوج " ياسو" لفؤاد المهندس في فيلم هارب من الزواج، ليقوم قورة بتحويل الكلمات من " هي حكاية حرب وتار بينا و بين الاستعمار" إلى "هي حكاية حب ودار،زي حكاية قهوة وبار، حب كتينا في شهر آذار".


ولكن المثال الأبرز على تلك اللعبة التي كان يحترفها قورة جاء مع اغنية نجاة الصغيرة  بان عليا حبه والتي كتبها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل ليقوم قورة بإزاحة كلمات جاهين جانبا ليضع كلماته هو على نفس اللحن والتوزيع ويعطيها لسعاد مكاوي الصوت القادر على أداء المونولوج و الاغنية الطربية بنفس القوة والكفاءة لتتحول من " من خوفى عليه ما بنامشى /وافرش له طريقه برمشى/ هنانى وهواه ما رحمشى /لية لما نده لبيته/ لية بين الضلوع خبيتة" إلى " من خوفي خلاص ما بنامشي / علشان يا أختي بيه ما أحلمشي/ ولا أقعد معاه ولا أمشي / وإن شوفته راح أخرب بيته/ ويا ويل روميو من جوليته/ ها يروح اللومان"، ليؤسس و يبلور فكرة البارودي الموسيقي والذي شاركه فيه عدد من الملحنين كما ذكرنا و لكنه كان هو الشاعر الوحيد تقريبا وقتها الذي قدم هذا اللون.



قورة أيضا لم يقدم المونولوج فقط بل قام بالمزج بين الأغنية الكلاسيكية والمونولوج في اغنية وأحدة ربما أوبريت " أبطال الغرام" لمحمد فوزي وصباح وإسماعيل ياسين شاهدا على ذلك فالتنقل بين اللون الطربي لصباح والذي تقدمه بكلمات خفيفة رشيقة مع محمد فوزي ثم الانتقال إلى المونولوج الصريح الذي يحمله صوت إسماعيل ياسين كانت جرأة وشجاعة يحسد عليها قورة وهو الأمر الذي كرره في فيلم المليونير الفقير مع إسماعيل ياسين وفايزة احمد في اغنية " انا ها اتجنن أنا محتار".



أصل الدنيا لما تخون. يبقى السكر فيها ليمون



أصل الدنيا لما تخون. يبقى السكر فيها ليمون


 


الحديث عن قورة في المونولوج فقط ربما يستهلك شهور لتعدد فيها البساطة والتلقائية والتفرد والتميز ولكن عظمة وقوة قورة تتعدي فكرة المونولوج والبارودي الموسيقي، فقورة يمتلك في جعبته مئات الأغنيات الكلاسيكية أيضا فمن حنجرة عبد الحليم إلى شادية إلى صباح إلى فايزة أحمد إلى فيروز إلى محمد قنديل إلى طلب إلى إلى إلى، يمكننا بالفعل أن نقول إن جميع من عاصر فتحي قورة غنى من كلماته باستثناء أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.



قورة مثلما كان ساخرا لاذعا في المونولوج و البارودي الموسيقي كان جريئا صادما أحيانا في الأغنية الكلاسيكية وربما مثال على ذلك تلك الاغنية الرائعة التي غنتها شادية " إن راح منك ياعين" والتي لحنها منير مراد، الغواية و الإغراء والسخونة يسكنان كلمات تلك الأغنية بحق فلا تملك إلا ان تتنهد حينما تسمع شادية تقول" وها أطفي بناره ناري وأخلص من تاري"، و أيضا عبد الحليم حافظ كان له نصيب كبير من كلمات فتحي قورة  فمثلا أغنية " بكرة و بعده " أو اغنية تعالي أقولك مع شادية وألحان منير مراد، لدرجة أن فتحي قورة كتب مونولوج غنائي لعبد الحليم حافظ لحنه منير مراد هو مونولوج " يا سيدي أمرك"، ومع صباح قدم لها العديد من الأغاني ربما أبرزها روح على مهلك من ألحان منير مراد وغيرها.



أينما تكونوا يدرككم فتحي قورة بكلماته فحينما تنجح في دراسة ستذهب تلقائيا لتستمع إلى كلمات فتحي قورة " وحياة قلبي و افراحه" وحينا تحب ستجد نفسك تستمع إلى فتحي قورة أيضا وحينما تعاتب حبيبك ستلجأ لعبد المطلب " ما بيسألش عليا أبدا " وهو إبداع فتحي قورة، وحينما تشعر بالوحدة ستذهب إلى واحة محمد قنديل لتستمع إلى "ما بين البر والتاني" وحينما تتزوج ستندن اغنية " خطابك كتير وقالولي" وحينما تنجب ستسمع شادية تغني " حلاقاتك برجلاتك" بإختصار فقط أم كلثوم وعبد الوهاب لم يغنوا من كلمات فتحي قورة، وهو أمر تمنته ام كلثوم كثيرا لدرجة انه كان هناك مشروع لعدد من الأغاني الخفيفة يكتبها فتحي قورة ويلحنها منير مراد وتغنيها أم كلثوم في الفواصل بين فقرات حفلها ولكن المشروع لم يكتمل.



قورة لم يتوقف عند كتابة الأغاني فقط بل كانت له إسهامات في مجال الدراما الإذاعية منها مثلا التمثيلية الإذاعية دليلة و الفك المفترس، كما اشترك في كتابة حوار فيلم ابن ذوات عام 1953 من بطولة إسماعيل ياسين ونجاح سلام وكيتي وإخراج حسن الصيفي وهو الفيلم الذي غنى فيه محمد قنديل أغنية " مالي بيه" وغنى فيه عمر الجيزاوي " مت مت ولا أنتاش داري" و الإثنين من كلمات فتحي قورة بالطبع.


فتحي قورة رغم كل هذا الزخم الغنائي والذي يستحيل حصره في مقال او حتى سلسلة مقالات، أو كما قال شريف حسن " ازاى تكتب عن 30 سنة شغل في مقال واحد" وصل به ضيق الحال في فترة من فترات حياته أنه باع اغنياته لتذاع وتنتشر باسم شاعر أخر، وبالفعل هو شاعر واحد والغريب انه شاعر ذو باع وتاريخ كبير تعامل مع جميع المطربين وقتها وبلغت منن الشهرة مبلغا كبيرا ولكنه اشترى بالفعل ما يقرب من 40 اغنية من فتحي قورة ونسبها لنفسه، مستغلا الضائقة المالية التي مر بها فتحي قورة قبل أن يفقد بصره.



ويقال ان قورة كلما كان يسمع تلك الأغاني كان يبكي حزينا على ما فعله به المرض والاحتياج للتفريط في 40 إبداع خاص به ولكن هذا ما حدث والغريب اننا حينما نستمع إلى تلك الأغنيات الأن ندرك انها من كلمات فتحي قورة حتى وإن كانت تنسب لأخر فبصمة قورة لا يمكن أن تتكرر أو تتشابه او حتى يتم اقتباسها.


 الغريب أنه وإلى الان ونحن في عام 2016 لم يهتم احد بالبحث وجمع أغاني فتحي قورة فلا نمتلك إلى الأن رقما محددا للأغاني التي كتبها فتحي قورة، ولا توجد صورة واحدة على الإنترنت يظهر فيها فتحي قورة لكي نعرف ملامحه منها، ولا تأريخ حقيقي لحياته سوى الأغنيات و عام صدورها و لكن حياة قورة الخاصة لم يعرفها سوا اصدقاءه ولا يوجد له حديث صحفي او تلفزيوني مجرد حديث إذاعي تم تسجيله في أواخر أيامه، ليصبح قوره هو المبدع الغامض تماما.


قورة خانته الدنيا عام 1966 ليكل بصره وتحاول أم كلثوم وعبد الوهاب استصدار قرار بعلاجه على نفقة الدولة وبالفعل يتم الأمر ولكن بعد فوات الأوان ليغيب قورة قليلا عن الساحة ولكنه يعود كما كان سابقا لاذعا ساخرا جريئا مجدد ومتفرد يغرد بعيدا بعيدا عن باقي السرب حتى وفاته في 18 أغسطس عام 1977.


المراجع:


مقال للكاتب شريف حسن بعنوان "مراد منير وفتحي قورة واللعب مع الكبار"