التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 06:49 ص , بتوقيت القاهرة

في ذكرى ميلاد رضوان الكاشف.. "المهمشون لا يجب أن تكون نهايتهم سعيدة"

" مثل إيكاروس*، ارتقى فرأى ما لم يراه غيره"


أهم ما ميز موجة الواقعية الجديدة أو سينما الثمانينات وما تلاها من سينما، هو انحيازها الشديد للطبقة المتوسطة وما أدنى منها من طبقات، فشاهدنا سائق الأتوبيس والتاكسي وساكني القبور والبدرون ولاعبي الكرة في الشوارع وغيرهم من طبقات واشخاص لم تهتم السينما بهم من قبل ولم تتعرض لهم إلا في أضيق الحدود فكانت سينما حقيقة تشبه هؤلاء المارين من امام دور العرض.


ولكن المخرج رضوان الكاشف -والذي ولد مثل هذا اليوم 6 اغسطس عام 1952- قرر أن يقترب أكثر من تلك الطبقة، قرر أن يغوص بداخل المهمشين بكافة أطيافهم وأشكالهم ليشكل عالمه الخاص عالم جاء من الرؤية المتأنية والتفهم الكامل لتلك الطبقة، عالم خلقه الكاشف في ثلاثة أفلام فقط لا غير ليصبح مثال حي على أن الكيف دائما وأبدا ما يهزم الكم، والبقاء دائما للأفضل والأخص للسينما.


ليه يا بنفسج.. ثنائية الأمل والموت


اقترب الكاشف في فيلمه الأول -ليه يا بنفسج عام 1993 -مثلما لم يقترب أحد من هؤلاء المهمشين الطامحين في الهروب من واقع هو أشبه للموت البطيء، واقع لا ينمو فيه حب بشكل سوى تتحول فيه قيمة الصداقة إلى عملة نادرة بالفعل فهي صداقة صهرتها ظروف معيشية صعبة صداقة اشبه بسلسلة حديدية لا يمكن كسرها وإن كان معرضه في أي لحظة لأن تنصهر ولكنها يعاد تشكيلها مرة أخرى.


يأخذنا الكاشف الي عالم الأصدقاء الثلاثة " أحمد المتمرد على عالمه والراغب في الحياة خارج منطقته وظروفه العالم الذي يعيش فيه" وسيد القانع الراضي الخاضع أحيانا كثيرة والذي يكتفي بأن يأخذ حقه من العالم اختلاسا" وعباس الفهلوي الذي يعيش كبهلوان السيرك يمشى على حبال واقع يدرك أنها ستخنقه عاجلا أم أجلا.


وبين الموت والفقد والاحتياج والحب المبستر والأمل يعيش الثلاثة مأساة يجسدها الانتظار، فكل منهم ينتظر حدي يخرجه من دائرة أحكم غلقها على رقبته فعباس يحلم بزوجه تخرج من دائرة الوحدة التي يحيياها وسيد يحلم بحب يؤكد له أحقيته في الحياة دون أن يسرق هذا الحق أما أحمد فيحلم بـ"علي بوبي" الأمل للخروج من هذا العالم والعيش في حياة أفضل.


الغريب أن حلم عباس تحقق ولكنه وجد نفسه في خيار بين زوجته واصدقاءه ليرحل، أما سيد فمن أحبها أحبت أحمد ولكنه اختار أحمد ليخسر حلمه، بينما يظهر علي بوبي ويأخذ أحمد معه ليتحقق حلمه أخيرًا ولكن بوبي يُقتل على يد عصابات مجهولة ليعود إلى الحارة ويعود الجميع إلى نقطة الصفر من جديد، الجميع دائر في دائرته وعاد إلى حيث انتهى.


وربما لم أرى نهاية اشد مأساوية مثل تلك التي قدمها الكاشف في ليه بنفسج ليقف الثلاثة بملابس زاهيه وألاتهم الموسيقية يعزفون لحن مبهج من ألحان الأفراح في وسط صحراء جرداء وكان صداقتهم فقط هي ما تبقيهم على قيد الحياة رغم خسارتهم للحلم والأمل أيضا.


عرق البلح.. المهمشين حالا وزمنا ومكانا


6 سنوات تفصل بين فيلم رضوان الأول وفيلمه الثاني، ربما يظن البعض أن فيلم عرق البلح (1999م) استغرقت كتابته وتنفيذه 6 سنوات ولكن هذا غير صحيح، فعرق البلح هو أول فيلم كتبه رضوان الكاشف كتبه قبل فيلمه ليه يا بنفسج، وعرضه على العديد من اساتذته وزملاءه لتكون الإجابة الدائمة" فيلم حلو أوي.. بس محدش ها ينتجه" إلا ان الكاشف المثابر استطاع تحقيق حلمه في النهاية ليقدم واحد من أفضل الأفلام في السينما المصرية.


في عرق البلح اختار الكاشف ان ينحاز ايضا إلى المهمشين ولكنه كان تهميش مكثف، فهم المهمشون زمنيا ومكانيا وحالا، فالزمان في الماضي ولا نعرف متى تحديدا والمكان في نجع من نجوع الصحراء نقطة خضراء في بحر اصفر مميت والحال لا يختلف كثيرا عن غيرهم لديهم احلام وأمال وطموحات وقوة مجهولة تختطف الرجال من النجع الهادي بأحلام الثراء والمال الوفير ليصبح النجع بلا رجال سوى أحمد " المراهق".


يترك داخلك الكاشف في فيلمه عرق البلح تساؤلات كثيرة حول تلك القوة التي أصرت ان تفرغ النجع من رجاله؟ قوة تحمل قائمة بأسماء جميع الرجال؟ وكأنها قوة قدرية وباء يحمل اسماء ضحايا ليحملهم خارج النجع الآمن، ولكن تلك الأسئلة تخفت تدرجيا حينما ننغمس في حياة النجع الخالي من الرجال وتحولات نساءه إلا نخلات اصابها العطب فمن الاحتياج إلى الرفض التام تحولت الرغبة في نفوسهن، الوحيد القادر على الحياة في كل هذا الموقت هم ثلاث الجد الأخرس وأحمد المراهق وسلمى العاشقة لأحمد.


ربما تمر افلام وافلام فلا نرى افتتاحية فيلم لمخرج مصري بكل هذا الكم من العبقرية والروعة والتكثيف، اراد الكاشف ان يجعلك تشعر بفرق الزمن بين الحاضر " الافتتاحية" و بين ما كان " الفيلم " عن طريق لغة الحوار فالافتتاحية كانت بالفصحي بينما سار باقي الفيلم بالعامية الخاصة بأهل النجع عدا مشهد السيارات والتغريبة الأولي للرجال كان بعامية مختلطة بالفصحي، استخدم الكاشف اللغة كبيان على اختلاف الزمن والحضارة والموروث بين العائد و الذي أدى دوره الراحل "عبدالله محمود" والجذور، ولم تتوقف دلالة اختلاف اللغة بين الافتتاحية والأحداث عن تباين الزمن فقط بل امتدت لبيان مدى انقراض اللغة الدارجة في النجع " مكان الحدث " والعائد مما يدل على اختلاف الموروث واندثاره في عقل العائد ايضا ، ومهّد الكاشف لمقدار حجم الواقعة التي أدت إلى تحول النجع إلى ديار خاوية على عروشها إلا من زاد الخير و سر سلمى من خلال الإشارة التي ألقاها العائد حيث ان والد العائد "وهو أحد أهل النجع الذين هاجروا" كان يحكي له عن النجع في حالات السكر الشديد لا في حالات الإفاقة، بينما اشارت زاد الخير للرائحة التي ما لم تستجب لها قتلتك فلا تعلم ماهية ما يتحدثون عنه إلا بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم، فتخرج في حيرة حول ماهية الرائحة هل هي رائحة الغربة أم رائحة دم أحمد الذي اخفى عجز الرجال ام رائحة دم شفا ضحية جمالها وأنياب الانتظار أم ربما هي رائحة الشمس الحارقة التي حولت القرية إلى رماد ينتظر نفخات عاتية من رياح الزمن حتي يطير في أعين كل من أدار ظهره له ، لينهي الكاشف افتتاحيته العبقرية بجمله " أكشف ظهرك دعنا نخرجها منك" و تبدء سر سلمى في ملامسة ظهر العائد في وجل وخوف أبعد ما يكون عن الشوق أو اللهفة أو حتى فضول اكتشاف الرجل.


الكاشف مع نجع المهمشين اراد ان يخبرنا ان ستر النجع انكشف بقتلهم للرجل الوحيد الباقي في محاولة منهم لاسترداد آداميتهم وهربا من الاعتراف بجرمهم في هجرة النجع وانهم السبب الوحيد والحقيق فيما حل به، المهمشين ايضا يأكلون بعضهم فهذا العالم ليس فيه احدا ببريء.


الساحر.. أو كيف نحتال على الدنيا


لم يكن هناك وقت ليضيعه الكاشف لم يتوقف كثيرا هذه المرة عامين فقط قبل أن يطلق فيلمه الثالث والذي ينحاز أيضا لنفس الطبقة، طبقته المفضلة المهمشون ولكن إذا كان ليه يا بنفسج نرى فيه كيف يحلم ويحاول المهمشون التمرد، فإن فيلم الكاشف الثالث نرى ما يفعله المهمشون للتكيف مع حياة اصبحت شبة قاتله.


الساحر أو نظرية البهجة كما أسماه الكاشف هو شخص غاب يسحر من حوله يساعدهم على الحياة في الهامش بشكل أفضل، الساحر قادر على إدخال البهجة لكل الموجودين بحياته ولكن هل هو قادر على إبهاج نفسه.


لم يكن منصور يدرك ان ما يخرجه من سحر مبهج لمن حوله يمتص من طاقته، يجعله يخسر أغلي ما يملك فكان الساحر على وشك ان يخسر نور ابنته لولا ان من حوله ردوا له جزء من بهجته فأعادوها إليه.


مهمشون الساحر هم مهمشون حالا راضون قانعون لا احلام تراودهم بالتمرد او الهرب كل ما يريدنه أن يكون كل عزيز لديهم بخير وسلام فقط، بعيدا عن عالم احترف فن هرس الضعفاء وساكني الحيطان.


الكاشف لم ينتصر أبدا لأبطاله فأحمد وسيد وعباس فقدوا أحلامهم وإن ظلوا سويا، أحمد وسلمى فقدوا الحب بل وفقد النجع رجاله والظل، أما منصور بهجت فاستطاع ان يأمن له ولمن يحب مكان بجوار الحائط يعيش فيه، الكاشف "إيكاروس المهمشين " لم يسقط من عليائه إلى الأرض بل استمر في التحليق دون ان يذوب شمع جناحيه، ليكشف لما مأساويه ابطاله.


* إيكاروس: أسطورة يونانية عن رجل صنع جناحين ثبتهما بالشمع إلى جسده فلما اقترب من الشمس ذاب الشمع وسقط صريعا.