التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 06:05 ص , بتوقيت القاهرة

رسائل من جبهة النصرة ولبنان إلى مصر

لبنان مهيأ لوصول الميليشيات السنية منذ اغتيال رئيس الوزراء السني رفيق الحريري قبل عشر سنوات. لكن الميليشيات السنية أو الشيعية لكي تتكون لا بد لها من عاملين، أولهما هو البيئة الحاضنة، وثانيهما هو السياسيون الانتهازيون الذين يتعهدونها بالرعاية. الصلات مريبة بين دولة قطر وبين التنظيمات الجهادية، بدءا من حرب أفغانستان، مرورا بالزرقاوي في العراق، والآن جبهة النصرة في سورية ولبنان.

المانشيت الخاص بمبادلة جنود لبنانيين بمعتقلين من جبهة النصرة وداعش، بوساطة قطرية، ظهر في عز أزمة الإرهاب الذي ضرب ثلاث دول مؤخرا، وفي عز الجدل الدولي حول الحل في سورية، ما يشير إلى واحد من أهم أسباب التشاؤم بخصوص التوصل إلى هذا الحل، وهو التداخل السياسي بين الإرهابيين وبين دول إقليمية، ووجود قنوات اتصال مفتوحة معها. وحين تكون تلك الدولة الإقليمية عضوا في التحالف لمحاربة الإرهاب، وضيفا متكررا على قادة دوله، وشريكا اقتصاديا في استثمارات كبرى، ومالكا لأسهم وسائل إعلامية كبرى، بل وضيفا في المقصورة الرئيسية لأول مباراة لنادي باريس الأشهر بعد الأحداث الإرهابية، فإن الكارثة أكبر. لقد صار “حاميها حراميها” ومتعقبها رهن عقبها.

السؤال الحالي، ما الفرق بين جبهة النصرة التي تحتفظ قطر بعلاقات جيدة معها، وبين داعش؟ والسؤال التالي، لماذا لا نسمع اسم جبهة النصرة في الأخبار العالمية عن الإرهاب؟ والسؤال الثالث إن كان الجميع يعادي داعش والنصرة فكيف أنهما أقوى الفصائل على الأرض، بشكل لا يقارن بـ “المعارضة المعتدلة” الأخرى؟ والسؤال الرابع، ما هي هذه “المعارضة المعتدلة”، لماذا لا نسمع أسماءها في الأخبار ولا نعرف قادتها؟

حتى في بريطانيا يشككون في هذا. رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ادعى أن هناك 70 ألف مقاتل ضمن “المعارضة المعتدلة”. ثم أقر مكتبه بأن هناك متشددين بين هؤلاء. لكن السياسة ليست تصريحات ساسة. السياسة واقع يعيشه الناس ويشعرون به. ومن الصعب جدا إقناعنا بأن فراغا سوريا، لو حدث، سيملؤه أحد سوى متشددين إرهابيين. وأنه لا بد من حل هذه المشكلة وإلا ابتلعت الجماعات الإرهابية، ليس فقط سوريا، وإنما لبنان أيضا، وربما تمددت إلى العراق. 

الميليشيات تنمو حيث الفراغ السياسي، والتفريغ السياسي. لا عجب إذن أن خبر الإفراج عن جنود الجيش اللبناني ومبادلتهم بمعتقلين من النصرة يأتي في ظل “انفراجة” في أزمة رئاسة الجمهورية اللبنانية، المنصب الشاغر منذ أكثر من عام. صار مزيد من اللبنانيين يتداول اسم “سليمان فرنجية”، ابن النائب السابق طوني فرنجية، وحفيد الرئيس السابق الذي يحمل نفس الاسم، كرئيس قادم للجمهورية. سليمان الحفيد ابن المأساة التي أودت بحياة أسرته في اغتيال على يد الكتائب. في إشارة ذات مغزى إلى عقود من الفشل السياسي، والدول الفاشلة سياسيا، الملصقة تلصيقا. 

اعتادت برامج السخرية السياسية اللبنانية أن تقدم سليمان فرنجية في صورة التلميذ الذي يحمل حقيبة مدرسية ويضع “لولي بوب” في فمه. ليس فقط بسبب ملامحه الـ “بيبي فيس”، وإنما بسبب أنه أحد أقل السياسيين اللبنانيين مهارة. إن أضفنا إلى ذلك أن تياره - المردة - يأتي في ترتيب الشعبية المارونية بعد ميشيل عون وسمير جعجع وعائلة الجميل، أدركنا حجم المأساة السياسية المستمرة، الكامنة، خلف الأزمات المتكررة. 

الميليشياوية الطائفية لا تعترف بالزعماء الأقوياء ذوي الشعبية، ولا تتحملهم. الفراغ السياسي شرط أساسي لوجودها، ولذا تبدأ وجودها بالتفريغ السياسي. لاحظي سلوكهم السياسي في أي دولة - ومصر ليست استثناء - ستجدين أنهم  وأذيالهم لا يعمدون إلى المعارضة، لأن المعارضة تنم عن مشاركة، بل يعمدون إلى “هد النظام” لأن الهدف المرحلي الأهم عندهم هو الفراغ. 

في لبنان نستطيع أن نرى الخطوة التالية للفراغ والتفريغ. الخطوة التالية هي إنتاج شخصيات تستطيع الطوائف والميليشيات أن تتحكم فيها. شخصيات عاجزة تماما - كشرط أساسي - عن إحداث تغيير ينقل البلاد من حال الفراغ ذاك. شخصيات في أقرب نقطة ممكنة إلى الفراغ، أو كما نقول عادة “وجودها مثل عدمها”. 

سيكون في لبنان زعيم شيعي تدين له الطائفة “فداء رجله”. وسيكون في لبنان زعيم سني تستمع له أغلب الطائفة. بل وسيكون فيها زعماء موارنة كل واحد فيها أقوى من “صاحب مقام الرئاسة” الماروني. 

ماذا ينتج هذا؟

لن ينتج إلا مزيدا من الميليشيات.

إن أزمة الدول “الجمهورية” في العالم العربي خطيرة. خطيرة خطيرة. وأزمة الثقافة السياسية في العالم العربي خطيرة. خطيرة خطيرة. أكثر كثيرا مما نتخيل. كل ما نتعامل معه هو مجرد بثور على الجسد. والمشكلة أنها تزداد وتتسع. من فلسطين إلى الحرب الأهلية اللبنانية إلى العراق والكويت ثم العراق، والآن سوريا. لو تخيلنا أنفسنا نتفرج على دولنا في مسلسل تليفزيوني فمن العجيب أن نراها في أي دور إلا دور المحتضر. لكننا لا نزال نتحدث عن الانتقال إلى الدولة الوطنية الحديثة وكأنه من رفاهية العيش. لا ندري أنه الأساس الأول إن أردنا أن نحيا. 

عرفنا أن لبنان يتأهل لسنوات أخرى من شبه الفراغ وتحكم زعماء الطوائف في زعماء الدولة. وعرفنا أن سوريا، ولسنوات قادمة، لن تكون دولة. وعرفنا أن داعش تمدد مناطق سيطرتها في ليبيا. هذا وضع لا تملك مصر رفاهية السكوت عليه وإلا نهشنا من أطرافنا، وتكفل الإخوان وأعوانهم بالداخل. لا بد لمصر من دور إيجابي فيه. وهي مؤهلة مع فرنسا لهذا الدور. دور الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف، والاستعداد للمشاركة العسكرية (نعم) والدبلوماسية الجادة صاحبة المبادرة، وصاحبة الرؤية الواسعة المنفتحة على كل الخيارات ذات الصالح المصري، مهما كانت، والاستعداد لتقديم التضحيات في سبيل تحقيق ذلك. 

دون هذا لن نستطيع أن نرتب الأولويات، وسنفاجئ بأن دولا على علاقة وثيقة بالإرهابيين هي التي تفعل ذلك، ثم تبرئ ساحتها عالميا بالآلة الدعائية الرهيبة التي تملكها. مصر تحتاج استراتيجيا إلى مزيد من الثقة بالنفس، إلى مزيد من الإقدام. لأن الوقت ليس في صالحنا.