التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 09:49 ص , بتوقيت القاهرة

الإسلام في الميزان.. اليهود (6)

أحاول ألا أكون انتقائيًا، وكذا أحاول ألّا أكرر نفس المواضيع، فكثير من الآيات تعيد نفس القصة، إمّا للتأكيد على العبرة منها، وإمّا لزيادة بعض التفاصيل لم تكن ذكرت في الآيات المشابهة المتناولة لنفس الموضوع، وقد يكون لاختلاف سبب النزول، أو يكون ذلك لحكمة لا نعلمها جميعا!


فأتوجه مباشرة إلى الآيات 82، 83 من سورة المائدة: " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى? ذَ?لِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى? أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"(83).


هاتان الآيتان المؤثرتان تأثيرًا عميقًا في أنفسنا (خصوصًا نحن المصريين)، حيث نعيش جنبًا إلى جنب مع المسيحيين (النصارى) فنستخدمهما ادعاءً منا ألفةً مصطنعة متكلفة. وأذكر جيدًا حينما كنتُ في الجامعة وكنت أحضر ندوة مشتركة لأحد الشيوخ الأزهريين وأحد القساوسة، حيث بدأ الراهب حديثه من منتصف الآية 82 "ولتجدن أقربهم...." إلى آخر الآية ثم شرع في كلمته إلى أن انتهى. وما كان بعدها من الشيخ الجليل إلى أن أكمل له الآية اللاحقة "وإذا سمعوا ..... "؛ حتى يبين له صفة النصارى المذكورين وأن ما يقوله إنما هي مجرد أماني.


لكن بالرجوع إلى موضوعنا الأصلي نجد أن الآيتين واضحتين جدًا في إطلاقها للمعنى، على الأقل في الجزء المتعلق باليهود، فهم والمشركون الأكثر عداوةً للمؤمنين. فإمّا أن نسلِّم بهذا على إطلاقه، مُسقطين المعنى على كل اليهود والمشركين، وننسى حركة "السلام الآن" اليهودية، وننسى المنصفين من اليهود، وننسى اليهود المعارضين لقيام إسرائيل، بل وننسى المشركين الذين منهم من يقوم بأعمال خيرية للإنسانية جميعًا لم يقم بها مؤمن. وإمّا أن نسلم بزمانية وخصوصية الآيات حيث المقصود يهود بعينهم ونصارى بعينهم وظروف بعينها. فنعود مرة أخرى- آسفين- إلى أسباب النزول علّنا نجد ضالتنا.


فتتحدث أسباب النزول كما في الطبري وابن كثير عن أكثر من احتمال لهذه الآيات، منها مثلاً أن تكون نزلت هذه الآيات في النجاشي ملك الحبشة، ويوردون لذلك قصة طريفة أرجو أن تعود للتفاسير لتقرأها عن النجاشي فى هذا الرابط، ومنها أيضًا أن الآيات نزلت في وفدٍ أرسله النجاشي ليستمع إلى رسول الإسلام فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع. لكننا سنجد شبه إجماع أن هؤلاء النصارى المذكورين لم يظلّوا نصارى على حالهم في آخر الآية بل تحولوا إلى الإيمان بعد سماع ما أنزل إلى الرسول، وهو ما نجده متماشيًا مع المنطق اللغوي الموجود في الآية.


لكنّ أحدًا منهم لم يتطرق إلى سبب وجود اليهود في الآية، وهو الأمر الذي قد نفهمه حيث إن اليهود هم أهل الكتاب ذو النسبة الأعظم داخل الجزيرة العربية وقتها. فبقليل من التأويل وإعمال العقل ندرك أن المقصود مخصوص بالزمان والمكان حيث نزلت الآية. ولن أتطرق مجددًا كما في مقالاتي السابقة عن سبب إطلاق الآيات لفظًا كما هي الآن إن كان المقصود منها مسببًا أو عن سبب التعبد بها على إطلاق لفظها أو سبب تفرق آيات الموضوع الواحد مما يجعل من الصعب التعبد مع الإتيان بالصورة كاملة في الدماغ. فمنطقي المستغرب لهذا الأمر تستطيع أن تراجعه في الأجزاء السابقة.


ولقد ذكرت في المقال السابق عن آيات مسخ اليهود إلى قردة وخنازير وما كان في ذلك من الحديث. ولذا فأنا أحب الآن طبقا لترتيب الآيات كما في المصحف أن أتعرض للآية رقم 95 من سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَ?لِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ".


آية موجهة للمسلمين فيها نهي مباشر عن الصيد في وقت معين محدد من الله، تمامًا كما كان الأمر مع بني إسرائيل، تحريم صيد في وقت محدد، لكن الأمر مع المسلمين اختلف نسبيًا، فما حدث هو أن مع التحريم قد نزلت كفارة معصية هذا التحريم. ثم يذكر القرآن صراحة أن تلك الكفارة "ليذوق وبال أمره"، وهو الأمر الذى نستنتج منه أن هذه الكفارة أو العقاب هو المعادل لحجم هذا الجرم. فهل يكون منطقي إن قارنت بين ذلك وبين قصة أصحاب السبت المخالفين لنهي مباشر بتحريم صيد البحر في وقت معين؟ "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ" (البقرة 65،66) طالما تساوى الشرطان، فلِمَ اختلف جوابهما؟! لما كانت الكفارة هنا، وعقاب المسخ هناك بلا فرصة للتكفير؟! هو مجرد تساؤل أتمنى الوصول لمنهج سليم للإجابة عليه.


وتمر سورة الأنعام لا أجد ما يهم بحثي إلا بيان واحد من أهم أسباب نزول رسالة الإسلام كما يذكر القرآن: "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَ?ذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى? طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)".


وبالرغم أن هذه الآيات إنما تُبرز خصوصية الرسالة الإسلامية زمانيًا ومكانيًا، الأمر الذى يثير حديثًا بشأن عالمية الرسالة، إلا أنه خارج موضوع بحثي وقد أفرد له مكانًا بعد حين. لكن ما يهمنا الآن أنها سبب معلن قرآنيا لنزول الرسالة الإسلامية.


ثم تأتي في الترتيب الحالي للمصحف سورة الأعراف وهي من أطول السور المكية ومن أوائل السور حسب ترتيب النزول التي تسرد قصص الأنبياء بالتفصيل. وما يقارب ثلث السورة يتحدث عن بني إسرائيل وقصتهم. منذ أن كانوا شعب الله المختار وكانوا صابرين وقت ذلهم بمصر "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى? عَلَى? بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ" (الأعراف 137).


ثم باقي القصة كما سردناها سابقًا إلى أن يأتي دعاء موسى لقومه بعد الرجفة فيتم الربط أن رحمة الله ستكون للمتقين ويربط ذلك بالإيمان بالرسالة المحمدية: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَ?ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الأعراف 157)


ربط القديم بالمعاصر وقتها بدقة وذكاء خارق وكأنّها رسالة خفية للدعوة وسط القصص التاريخى.. ثم تكتمل قصة بني إسرائيل كما نعلمها جميعًا. وللحديث بقية.


للتواصل مع الكاتب