التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 03:35 م , بتوقيت القاهرة

الحجاب والعورة

من طبائع التخلف، أو الشعوب المتخلفة، هو الإفراط في الحديث عن الشكل، والزي، والمظهر، وتضخيم القضية حتى تصير هي القضية الوحيدة في الحياة التي يمكن الحكم على البشر خلالها، أو الحكم على المجتمع، وموقعه من الأخلاق. الرسول عليه الصلاة والسلام قال، "التقوى ها هنا" وأشار إلى قلبه ثلاثا. والآيات القرآنية تؤكد على المعنى في غير موضع.


يقول الله تعالى:(إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ?) التحدي الأول أن تحمل خيرا في قلبك، وأن تتخلص من البغضاء والتشاحن والشح والكبر. وقتها لا تقلق، يؤتك الله خيرا في الدنيا، ومغفرة في الآخرة.


ويقول: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)


والنبي عليه الصلاة والسلام، سعى لتحرير المسلم من المادة عموما، ومن الاستعباد للأموال والأشكال والمظاهر، فقال "تعس عبد الدرهم. تعس عبد القطيفة" تعيس من عاش يجمع الأموال وفقط. وتعيس من عاش منكفئا على مظهره وثيابه وفخامة خطواته. لأن الإفراط في ذلك يجعل الإنسان على المدى الطويل، متكبرا مغرورا، ثم يجعل لنفسه قيمة مستمدة من شيء تافه وسطحي. بل يصير شخصية سطحية دون أن يدرك.


وماذا عن الحجاب..؟


كثرة النقاش في قضية كتلك تنم عن تراجع عام في المستوى الديني، والمستوى الحضاري.


عموم الاحتشام واجب على البشر. وقضية الزي هي مسألة اجتماعية أكثر منها مسألة دينية. وكل مجتمع يستقل بتعيين الملابس الملائمة لثقافته وبيئته. فلو ذهبت إلى مكان قارس البرودة فسأضطر إلى الاختفاء خلف تسع طبقات من الملابس، وسأغطي أذني وأصابع قدمي ووجهي وقفاي. ولو ذهبت إلى مكان مشمس كالصحراء فسأرتدي ألوانا فاتحة حتى تعكس الشمس. وسأضع قبعة.


والعجيب أن تعيين عورة المرأة على التحديد لم يرد به نص واضح، ثابت، قطعي الدلالة.. لدينا حديث الوجه والكفين، وهو حديث مرسل، أي رواه عن عائشة من لم يقابلها، وهو يطعن في سند الحديث. ولدينا حديث نساء كاسيات عاريات. وهو لا يخصنا، لأن الحديث يصف نساء مائلات مميلات. في إشارة خفية إلى أنهن بائعات الهوى، الساقطات، اللاتي يستخدمن أجسادهن لجلب الزبائن.


ثم سكت النص الإسلامي عموما، قرآن وسنة، عن هذا التحديد المفصل. وكل ما لدينا من محددات "لا يصف ولا يشف" هي من أقوال الفقهاء، ورجال الدين، الذين كانوا أشبه برجال قانون، وعلماء اجتماع، في زمانهم، يحددون الملائم للمجتمع أكثر من تحديدهم الملائم لقطعيات الدين.. وربما لأنهم يعرفون أن الواجب عرفا واجب شرعا. وأن احترام أعراف الناس واجبة.


الحجاب في القرآن..


كلمة حجاب في القرآن لم ترد لوصف ملابس المرأة. أو لوصف الزي الخارجي عموما. بل وردت بمعنى حاجز مكاني يفصل بين اثنين. الآية تقول(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ? ذَ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ?) أي من وراء ستار أو حاجز يمنع الرؤية. وهذه الآية وردت في شرح حالة اجتماعية كانت تحدث في عهد الرسول، حيث كان بيت الرسول مكانا يضج بالكرم، يستقبل الضيوف ويصنع الطعام، وكان الرسول إذا اكتسب مالا لا يبيت في بيته منه شيء.


وكان البيت صغيرا، وبدائيا، حجرات من الخوص والتراب، ومعظمها بلا باب، وموضوع عليه ستارة من القماش، وكانت الحجرات متصلة بالمسجد، ويسهل الحديث لنساء النبي وأنت بالخارج. وكان بعضهم يمكث وقتا بعد الطعام، ويطيل الحديث، وكان ذلك يؤذي النبي، لأنه يريد السكينة في بيته، ونزلت الآيات تحثهم على الانصراف عقب الطعام (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ)، وكان بعض الرجال يسألون نساء النبي شيئا من المتاع، ربما طعام زيادة أو قدح ماء، أو منشفة، وهنا وردت آية إذا سألتموهن متاعا فاسئلوهن من وراء حجاب.. أنت في بيت الرسول، بيت أزواجه، وتتحدث إلى امرأة في بيتها، فمن دواعي الأدب ألا تدخل عليها وتقتحم خصوصيتها، بل من الأدب ألا تتحرك داخل المنزل وتلتزم مكانك.


هنا وردت الآية. وهي كما يبدو لا علاقة لها بالثياب، أو المظهر، أو الشكل الخارجي. بل باحترام خصوصية المرأة داخل بيتها.. ثم هذه الآيات هي قمة الانفتاح. فالرسول يدعو الناس إلى الطعام في بيته. ومن حق الرجال أن يتحدثوا لنساء النبي في البيت، ويطلبون متاعا. والنساء يجبن. فقط تحفظ عليهم خصوصيتهن.. مع وجود افتراض مسبق، أن الحديث بين رجل وامرأة على درجة من الوقار، والحشمة، وصفاء النية، وطهارة القلب.


ونكمل المرة القادمة..