التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 05:23 م , بتوقيت القاهرة

الإسلام في الميزان.. اليهود (5)

كانت الآية 51 من سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"، هي الآية التي أثرت على أغلب أسئلتي في مقالي السابق، والتي كانت تتمحور حول طبيعة الأخذ بأسباب النزول وهل هذه الآية هي حاضّة على الكراهية أم لها أشراط، وإن كانت ذات أشراط  وتخصيص، فلم لم تحوِ الآية نفسها أشراطها فلا نلجأ لسبب نزول خارج عن النص ولا طريقه لإثباته يقينًا؟


ولأني كما ذكرت في مقدمة بحثي لا أنشر بحثي هذا بناء على نتائج مسبقة، بل كل مقال هو آخر نتاج عقلي المحض، فإني أعترف هنا بقصر نظري، حيث إني لو كنت مددت البصر إلى أسفل الصفحة في المصحف لكنت وجدت الآية 57 من نفس السورة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".


والتي ما إن وقعت عيني عليها إلاّ وبرقت عيناي، فها هي أشراط الآية الأولى تتحقق في هذه الآية، وها هو التخصيص الذي يأتي بعد إطلاق فيكون الحكم على المخصص. فتخصيص عدم ولاية اليهود والنصارى كما في اللفظ القرآني ينسحب إلى من يتخذ دين المسلمين هزوًا ولعبًا، متضامناً مع "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة، 8). والتي تعد من أعظم الآيات كما أراها – أقول إن الصورة الآن تكتمل.


لكن وبغض النظر عن آية سورة الممتحنة فها هنا نحن في نفس الصفحة من المصحف وتكاد تكون الصورة واضحة جدا كما ذكرنا.


ثم فجاة يأبى شيطان فلسفتي أن يتركني دون تدخل، فتتبلور الأسئلة في عقلي:


نحن أمام آيتين كاملتين، ليست واحدة منهما نفيًا للأخرى، بل كلتاهما تستخدمان أسلوب الأمر ذاته، لكننا نحن من استخرجنا من الآية الثانية أشراطًا للأولى. وهنا يكمن السؤال: ما فائدة الآية الأولى أصلا؟ ألم تكن الآية الثانية كافية لتوصيل الرسالة كاملةً؟ فهى تحتوى على فعل الأمر وتخصيص هذا الأمر؟!


هل الشكل التاريخي المُسبب لنزول آيات القرآن هو السبب فقط في عدم حذف (نسخ) آية قد تبدو أنها لا تقدم شيئاً جديداً؟ فيكون لكل منهما سبب تاريخي متسبب في النزول ويكون علينا لزاماً لا مفر الالتجاء لهذه الأسباب الخارجة عن النص!


أعتقد أنه بالنظر إلى الآيتين متجاورتين بإطلاق دلالاتهما بعدم اللجوء لأسباب النزول نجد أن الآية 57 تشتمل على الأمر بشروطه.


"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" 51


"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" 57.


نعود إلى صلب موضوعنا حيث تأتي الآية 60 من سورة المائدة: "قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَ?لِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَ?ئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ"، وهي الآية الثانية في المصحف التي تتحدث عن مسخ اليهود إلى قردة (وهنا إلى خنازير أيضا)، حيث قصة أصحاب السبت المعلومة من سورة البقرة "وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (البقرة، 65) وقصة المسخ إلى خنازير المختلف عليها في كتب التراث (دون دخول فى التفاصيل).


والحقيقة أن هذه الآية انقسم حولها الناس إلى قسمين: الأول لا غضاضة عنده أبداً في مسخ الله لقوم من اليهود بشكل صوري تجسيدي لأنهم قد عصوا الله فهم يستحقون ذلك، وقسم ثان يجد في تلك القصة مشكلتين الأولى أخلاقية حيث العقوبة غير المبررة مقارنة بالمعصية، والعقوبة المهينة أصلا لخلق الله من القردة والخنازير (فالله لا يخلق مسوخاً) والمشكلة الأخرى عقلانية، حيث لا يوجد أثرٌ تاريخي واحد ولا توجد إشارة في كتب اليهودية أو المسيحية على حدوث تلك القصة.


القسم الثاني الذي يرى بإشكالية المسخ الفعلي ينقسم بدوره إلى قسمين (حسب تحليلي) قسم يرى بضرورة التأويل، حيث يقف الأستاذ عدنان إبراهيم وممثلو هذا القسم، فنراهم ينادون أن المسخ كان مسخاً معنوياً فقط تأنيباً من الله على ما فعلوا.. ولتستمع إلى ذلك المقطع لبيان وجهة نظر الأستاذ عدنان إبراهيم.



لكن هذا القسم نسي أن النص القرآني عندما يريد ضرب الأمثال فإنه لا يتحرج من ضربها، وعندما تحدث القرآن عن قلوب بني إسرائيل أيضاً قال: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَ?لِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً" (البقرة، 74)، فلماذا يضرب لنا الله مثلاً صريحاً مرةً ويتركنا مرة أخرى في تيه. آية أخرى يستعين بها الكثير بشكل عنصري جمعي للتهجم على أصحاب ديانة لمجرد تدينهم بها؟! خصوصًا أن التاريخ لا يذكر أيضًا إلا أن نادرين هم من نادوا بالتأويل فى هذه الآية، فلم تركها هكذا بدون أن يبين أنه مثل معنوي؟


أما القسم الآخر فيرى استحالة أخلاقية ذلك المسخ فعليًا، واستحالة تأويله أيضًا، فيضع الفكرة جانبًا فى عقله تمهيدًا للحكم آخر الجلسة.


" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى? شَيْءٍ حَتَّى? تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (المائدة، 68) كثيرة هي الآيات التي تطالب اليهود والنصارى – كما في النص القرآني – بتطبيق ما لديهم في التوراة والإنجيل تطبيقاً صارمًا يحتكمون فيه إلى ما أنزل الله لهم من كتاب، بالرغم من أن النص القرآني يقول بتحريفها! وكي يكون الموقف منطقياً بعض الشئ نستنتج أنه إما أن التحريف كان في تأويل نص التوراة والإنجيل (تماما كما حدث لدى المسلمين من الدواعش) أو أن التحريف حدث لفظياً فعلا لكن كانت هناك نسخًا من الأصول محفوظة عند الرهبان والأمر الإلهى هو بتطبيق ما في هذه النسخ الأصلية.


ولأن اليهودية والمسيحية وقتها كانتا منتشرتين في أنحاء المعمورة، فمن غير المنطقي أن نقول بأن كل النسخ الأصلية قد تم التخلص منها فى كل أنحاء الأرض! (بخلاف الإسلام الذي كان متمركزاً في هذه البقعة من الجزيرة العربية أثناء جمع القرآن).


إذًا فإذا ذهبت منطقيًا فسأذهب أن النص القرآنى يقول بتحريف الرهبان تحريفًا في معنى كلام النص التوراتي والإنجيلي وليس في نصه، الأمر الذي يفضي بأصالة النسخ الموجودة الآن. أما هذا أو أن يكون التحريف حدث فعليًا وتكون الآية 68 من سورة المائدة غير منطقية.


"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى? مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (المائدة، 68) وبعد جدال كبير تأتي هذه الآية العظيمة مكررة بتعديل من أخرى في سورة البقرة لتتركنا في حيرتنا، بين الآيات المتسامحة المفضية بالأمر إلى الله وحده، وبين أخرى لم تفسر عمليًا إلا بشكل عنصري كان ممكنا تفاديه في أصل النص. من حسم أمره قد حسم، ومن يبحث لازال يبحث، والحكم آخر الجلسة حكمًا فرديا خالصًا.


وللحديث نفسه بقية.


للتواصل مع الكاتب