التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 12:44 ص , بتوقيت القاهرة

فتنة الجمهور من يوليوس قيصر إلى Gone Girl

زوجة اختفت في ظروفٍ غامضة، وزوج متهم بقتلها. هذا هو الخط الرئيسي في فيلم Gone Girl، وهو من أهم أفلام العام الماضي. لن أُفسد عليك الفيلم. سأتكئ في هذا المقال على خط آخر، محوري أيضًا في أحداث الفيلم، يتعلق بالجمهور: كيف تتشكل تصوراته عن أي حدث، وكيف تُصبح هذه التصورات جزءًا من تطورات الحدث نفسه. 


(1)
اختفاء الزوجة "ماري" أصبح حدثًا قوميًا. الكثيرون صاروا يترقبون أخبارها. والدها ووالدتها، المهووسان بالشهرة والمظاهر، نجحا في دفع قضية ابنتهما إلى ساحة الرأي العام منذ اللحظة الأولى. منذ تلك اللحظة صار رأي الجمهور مؤثرًا في سير القضية: الإعلام نسج صورةً معينة للزوج بوصفه متواطئًا بشكل ما في حدث الاختفاء. سلوك الزوج نفسه ساعد على ترسيخ هذا الانطباع عند الناس. 


محامي الزوج يفهم جيدًا هذه التفاعلات، وهو خبير بهذا النوع من القضايا. هو ينصح الزوج بأن يتعامل مع الإعلام بصورة معينة تجعل منه بطلاً في نظر الجمهور، وهو ما يحدث فعلاً. مشاعر الناس تتبدل على وقع لقاءات التوك شو. هذه المشاعر تتحول من النقيض إلى النقيض في ظرف أيام قليلة من اختفاء "ماري".


البديع في "Gone Girl" أن الحقيقة لها أوجه متعددة ومتغيرة (مرة ثانية: لا أريد أن أُفسد عليك الفيلم، ولكن أكتفي بأن أحذرك من الكثير من الانقلابات والمفاجآت التي عُرف بها المخرج "ديفيد فينشر". لا تصدق انطباعاتك الأولى أو حتى الثانية!). 


ما يُهمنا هنا أن هذه الحقيقة المرواغة –كما يتبين من الفيلم- هي صنيعة الرأي العام نفسه. الرأي العام هو الذي يرسم مصائر الزوج المتهم بالقتل، والزوجة المُختفية. هو الذي يُحدد خياراتهما، ويبدلها باستمرار. القدرة على إقناع الرأي العام هي الفاصل بين البراءة أو الاعدام. 


(2)
ولكن ما هو الرأي العام؟
إنه كيان غامض للغاية. كتلة هلامية من الأفكار والانطباعات والمواقف. غيمة من التفاعلات التي تتشكل وفق قانون غير معروف، وبإيقاع لا يمكن التنبؤ به.
في مسرحية يوليوس قيصر لوليم شكسبير نموذج مبهر لتأثير الرأي العام، والتلاعب به لدفع مسار التفاعلات الدرامية لأي حدث.
 
كانت مؤامرة اغتيال قيصر قد اكتملت وسقط الرجل صريعاً بخناجر المتآمرين. "مارك أنطوني" – أقرب القواد إلى قلبه- يرفض ما حدث ويراه تجسيداً لأعلى مراتب الخيانة. على أنه ، وقد أدرك أن المتآمرين قد تمكنوا من تحقيق غايتهم بالفعل، لم يعد أمامه سوى الإذعان أو  أن يلقى هو نفسه مصير قيصر. وبدلاً من المواجهة، يلجأ "أنطوني" إلى خطة لمواجهة الخونة ترتكز أساسًا على التأثير في الرأي العام.
 
يطلب "أنطوني" من المتآمرين الإذن بالخروج إلى ساحة السوق لعرض جثة قيصر على الناس وتأبينه كما ينبغي. يوافق "بروتس" –المتآمر الرئيسي- على هذا الطلب، بشرط ألا يذكر أنطوني المتآمرين بسوء، وأن يقتصر في كلمته على ذكر مآثر قيصر، على أن يتلو تأبينه بعد خطاب بروتس الذي سيشرح فيه الأسباب التي حدت بالمتآمرين إلى اغتيال قيصر.


واضح أن "بروتس" بالغ في قدرته على استمالة الجمهور. من منظوره، بدت قضيته عادلة تمامًا كما لخصها في كلمتين: أحببت قيصر ولكنّه طغى فقتلته، وحبي لروما ووطنيتي أكبر من حبي لقيصر. 


هلل الناس بعد سماع هذا الكلام وهتفوا مؤيدين ومنادين ببروتس قيصرًا، وبدا أن الرجل قد نجح بالفعل في تحقيق غايته، إلى أن دخل "أنطونيو" إلى المشهد ليلقي خطابه، حاملاً جثة قيصر بين يديه (لأنه يعرف أن سماع الناس بخبر مقتل قيصر يختلف عن رؤيتهم للجثة، فليس من سمع كمن رأى).


بعد أن ألقى "أنطوني" بخطابه المؤثر (الذي حرص في بدايته على عدم مهاجمة المتآمرين بشكل صريح، بل ظل يُكرر أنهم رجال شرفاء ولديهم أسباب وجيهة تُبرر ما قاموا به) كانت مشاعر الجمهور قد تغيرت بالفعل. 


كان هذا التغيير يتصاعد بالتدريج خلال الخطاب نفسه، الذي لم يستمر سوى دقائق معدودات. بنهاية كلمته، كان الجمهور في "حالة نفسية" مختلفة، وقد تملكهم شعورٌ بالمسؤولية الجماعية عن هذا الحدث المروع، وبالرغبة في الانتقام ممن ارتكبوا هذه الفِعْلة الشنيعة. لقد أعاد "أنطونيو" وضع الحدث في إطار مختلف: مؤامرة قتل نفذها أقرب رجال قيصر إليه. 


هل كان الجمهور ناسياً لهذه الفكرة عندما وافق على كلام "بروتس" في الخطاب الأول، بل وهلل وهتف له؟ هل تذكر الناس معنى المؤامرة والقتل عندما استمعوا إلى "أنطونيو"؟ 


الحقيقة أن مشاعر الناس، وهي اللبنة الأولية لتشكل الرأي العام، يُمكن توجيهها. الأمر يتوقف على براعة من يقوم بهذا العمل وقدرته على اللعب على الأوتار الصحيحة. قدرته على النفاذ إلى نفسية المُتلقي وإلى أعماقه الدفينة التي قد لا يكون المُتلقي ذاته على وعي كامل بها. 


"أنطونيو" دق وترًا صحيحًا: أقرب الناس إلى قيصر قتله بشكل دنيء. الناس تمقت الخيانة. هو انتزع هذا الشعور الكامن في داخلهم وسلط عليه ضوءًا كثيفاً. 


(3)
بعد تجربة السنوات الأربع الماضية يُمكن القول بثقة أننا –كمصريين- صرنا خبراء في الرأي العام!
لقد عايشنا تبدل الآراء والمواقف والأفكار؛ مواقفنا وأفكارنا ومواقف الآخرين وأفكارهم. لاحظنا جميعاً أن التبدل يحدث بصورة شبه جماعية، وفق موجة غامضة كاسحة: نكره مبارك ونلعنه، ثم نأسى له، ثم ننساه، ثم نستعيده ونأسى له، ثم نحتفي به ونمجده، ثم نكرهه مجدداً..وهكذا في دائرة جهنمية من  المشاعر والمشاعر المضادة.


الرأي العام هو البطل الحقيقي في دراما "الثورة" المصرية، تماماً كما في Gone Girl ويوليوس قيصر. فهم الناس للأحداث وتلقيهم لها هو الذي يصنع الدراما ويُحركها. الحقيقة  في سياق "دراما الثورة"- كما في الفيلم والمسرحية- مراوغة ولها أكثر من وجه. الكثير يتوقف على الإطار الذي تُقدَم فيه هذه الحقيقة للناس. الكثير يتوقف على "من" يقوم بهذا العمل، ومدى تشرّبه لفكرة الحدث الدرامي الذي يتطور باستمرار. 


"الثورة المصرية" هي دراما متعددة الأوجه، ويُمكنك رؤيتها من أكثر من زاوية. الذين يصرون على رؤيتها من زاوية واحدة – أيًا كانت هذه الزاوية- يفشلون في فهم وتفسير التقلبات والمفاجآت التي انطوى عليها مسار الحدث من 2011 وحتى اليوم. ما يجعل مسار "الثورة المصرية"  أقرب إلى Gone Girl هو تعُدد لحظات الذروة والتنوير، إذ كُلما أفضى المسار إلى لحظة ذروة مُعنية (فبراير 2011 أو يونيو 2012) تبين أن الحدث يُخفي في طياته إمكانيات الوصول إلى لحظات ذروة جديدة تقلب مساره كله، بل وتُعيد فهمنا للمسار (يوليو 2013، يونيو 2014). 


ومن يعرف؟ ..ربما يظل الجمهور المصريّ عُرضة لمفاجآت تفوق تلك التي خبأها مخرج Gone Girl لجمهوره!