التوقيت السبت، 11 مايو 2024
التوقيت 04:36 ص , بتوقيت القاهرة

أسباب الغيرة في مهرجان قرطاج

علاقة أبناء تونس بمهرجانهم السينمائي الأثير أيام قرطاج السينمائية علاقة تستحق وقفة إعجاب وتقدير. فالمهرجان الذي انطلق عام 1966 على أيدي مجموعة من منظمي نوادي السينما ـ التي لا تزال فاعلة بشدة في تونس حتى الآن ـ وعلى رأسهم الأب الروحي للمهرجان الطاهر الشريعة، يعتبره التونسيون فخرا لوطنهم، يتحدثون عنه دائما بسعادة، يترقبون أيامه ليحولوا شوارع وسط العاصمة خلالها إلى كرنفال حقيقي لمحبي السينما.

من المسرح البلدي لقاعات مونديال وريو والكوليزيه وبالاس وغيرها، أسماء باريسية تزدحم على مدار الأيام بآلاف المشاهدين المستعدين للوقوف ساعات ـ دون مبالغة ـ من أجل ضمان مقعدهم في السينما. في حفل الواحدة والنصف ظهرا، شاهدت فيلما تسجيليا من جنوب إفريقيا، متواضع المستوى وبلا أي عامل جذب يدفع مشاهد غير متخصص لحضوره، فوجدت نفسي أقف في صف لقطع التذكرة وصف آخر لدخول القاعة.

يمكن بوضوح معرفة رأي الكثيرين في أي مهرجان مصري بمجرد معرفة صلتهم به، على مستوى العمل وتقديم الخدمات. 

حالة مدهشة من الوله بالسينما عموما، وبأيام قرطاج بوجه خاص، وأوقفني بيان اعتراضي أصدرته الجامعة التونسية لنوادي السينما، الجهة التي أطلقت المهرجان في دورته الأولى قبل أن تديره وزارة الثقافة لاحقا. 

الجامعة معترضة على تهميش إدارة المهرجان لدورها، وعدم وضع شعارها بين الرعاة في مكان يليق بقيمة الجامعة وتاريخها. لكن البيان رغم مضمونه الغاضب يفيض حبا ورغبة في خروج الدورة في أحسن صورة، ينتهي بعبارة "ولتحيا السينما.. عاشت الجامعة التونسية لنوادي السينما.. عاشت أيام قرطاج السينمائية".

لم أستطع أن أمنع نفسي من الغيرة، ومن المقارنة بين موقف البيان وأصحابه الذين لم يعلنوا مقاطعة المهرجان، بل أكدوا على المشاركة في فعالياته بشكل نشط لأن الهدف الرئيسي هو إنجاح الدورة، وبين موقف العديد من الجهات في مصر من أي مهرجان يقام فيها، والتي تتلخص في سؤال: هل لدينا مصلحة مباشرة مع المهرجان أم لا؟ لا أعمم بالطبع فلا يزال هناك ـ والحمد لله ـ العشرات من أصحاب الخبرة والضمير وحب السينما، ولكن من الملاحظة الشخصية يمكن بوضوح معرفة رأي الكثيرين في أي مهرجان مصري بمجرد معرفة صلتهم به، على مستوى العمل وتقديم الخدمات والدعوات بالطبع!

شعرت بالغيرة أيضا من الكلمة الافتتاحية التي ألقاها المخرج التونسي إبراهيم لطيّف، والتي بدأها بدعابة ذكية خاطب فيها "معالي" الجمهور الكريم، مكررا النداء في سخرية مبطنة من المهرجانات التي يكون أول من يُخاطب فيها هم أصحاب المعالي والسمو والفخامة، الذين لا يعرفون شيئا عن المهرجان وأحيانا عن السينما كلها. ثم انطلق لطيف في كلمته ليعدد أكثر من ثماني مشكلات مزمنة تعاني منها صناعة السينما في تونس، على النقيض مرة أخرى من الكلمات الافتتاحية المليئة بالإشادات والمبالغات ومدح الذات، من نوعية نحن بلد السينما وهوليوود الشرق وأرض الـ 35 ملليمتر وكل هذا الكذب البيّن.

سببٌ آخر للغيرة هو العرض الذي أقيم تكريما لمؤسس المهرجان الطاهر الشريعة، والذي شاهدنا فيه فيلما تسجيليا طويلا بعنوان "الطاهر الشريعة تحت ظلال الباوباب"، يروي سيرة المثقف السينمائي الكبير ودوره ليس فقط في تأسيس المهرجان، ولكن في دعم الثقافة الإفريقية بشكل عام. في الفيلم شهادات من راحلين عظماء، هم عثمان صمبان رائد سينما إفريقيا السوداء، ويوسف شاهين وتوفيق صالح، وأيضا لأحياء كبار، كعطيات الأبنودي وفريد بوغدير.

مصدر الشعور بالغبطة ليس مجرد فكرة تكريم المؤسسين بكل ما فيها من احترام لماض يتفنن البعض أحيانا في إلغائه وكأنَّه لم يكن، ولكن في اعتماد الفيلم في معظم أجزائه على لقطات أرشيفية شديدة الثراء، تم تسجيلها على مدار دورات أيام قرطاج السينمائية التي حرص منظموها من البداية على تخليدها بكاميرا السينما، فأصبح من الممكن أن تشاهد لقطات لشادي عبد السلام يتجول في أنحاء المهرجان ويتحدث مع المتواجدين فتسمع صوته وحديثه في الأرشيف التونسي، بينما يكاد ينعدم وجود مثل هذه المواد وهذا التأريخ في وطن شادي وشاهين وتوفيق الذين عاشوا فيه لأعوام طويلة. 

ويكفي أن ظهور عدة صورة أرشيفية للدورات الأولى من مهرجان القاهرة قبل انطلاق الدورة الماضية، كان حدثا حقيقيا في أوساط محبي السينما ودراويشها.

أسباب الغيرة كثيرة، والحديث عن أيام قرطاج لا ينتهي، ومتعة من أسعده الحظ بحضور المهرجان تتجدد مع كل ساعة يقضيها في أروقة المهرجان وبين جمهوره الذي يقدس السينما.