التوقيت الأحد، 05 مايو 2024
التوقيت 05:10 م , بتوقيت القاهرة

وثائق| أسرار الخلافات بين الأب متى المسكين والبابا كيرلس

ربما تكون حدة خلاف الأب متى المسكين مع البابا كيرلس السادس هي الأقوى إذا ما تم مقارنتها مع خلافه باقي البابوات، إذ صاحبها قرار بالتجريد من الرهبنة والكهنوت، إلا أن الأمر انتهى بعودته مرة أخرى، ويتناول هذا التقرير التفصيلي أسباب الخلافات وذلك من خلال مذكرات القمص متى - الذي تحل ذكرى ميلاده في مثل هذا اليوم عام 1919 - بالإضافة إلى مذكرات من توسطوا للمصالحة بينه وبين البابا:

أب إعترافه

بدأت العلاقة بين البابا كيرلس والأب متى المسكين منذ 15 مارس 1948 [1]، حيث أراد يوسف إسكندر (الأب متى) أن يترهبن بدير الأنبا صموئيل، والذي كان يشرف عليه في ذلك الوقت، بشكل مؤقت، القمص مينا المتوحد (البابا كيرلس) المتواجد في كنيسة مارمينا بمصر القديمة، فذهب إليه وقضى معه 3 أشهر، وكان في ذلك الوقت "أب إعترافه"، وكانت العلاقة جيدة للغاية. [2]، [3].

تجريده من الرهبنة والكهنوت

في عام 1960 أصدر المجمع المقدس برئاسة البابا كيرلس السادس قرارا يقضي بعودة جميع الرهبان إلى أديرتهم وحرمان من يخالف القرار، وعندما علم البابا بتواجد القمص متى ومجموعته خارج دير السريان طلب منهم تنفيذ القرار فاستجابوا، إلا أن القمص متى ترك الدير مرة أخرى بعد خلافه مع مدبر الدير الراهب مكاريوس (مطران بني سويف الراحل الأنبا أثناسيوس) [4]، لينتقل مع مجموعته إلى ببيت التكريس بحلوان، فأرسل إليهم البابا كيرلس كل من أسقف المنوفية الراحل الأنبا بنيامين، وأسقف جرجا الراحل الأنبا مينا لتسليمه خطاب شديد اللهجة يؤكد ضرورة تنفيذ قرار المجمع مهددا إياهم بالحرمان[5]، ولكن الأب متى رفض وبالتالي رفض معه رهبانه، فطبق عليهم جميعا قرار المجمع بالحرمان.

أكد كاهن كنيسة مارمرقس بالجيزة الراحل القمص صليب سوريال، أنه حاول التوسط لدى البابا قائلا له أن هذا القرار لا يشمل القمص متى وأبناءه، فرد البابا قائلا "لا كل الرهبان، القرار صادر من المجمع ولازم يرجعوا"، مؤكدا أنه جرت العديد من المحاولات لإرجاعهم دون جدوى. [6]

وبعد أن شمل قرار الحرمان القمص متى وأبناءه الرهبان، ذهبوا إلى صحراء وادي الريان [7] حيث قضوا هناك 9 سنوات، وكان ذلك القرار أحد الأسباب في استبعاد القمص متى من الترشيحات بالانتخابات البابوية بعد رحيل البابا كيرلس عام 1971، حيث تقضي لائحة انتخاب البطريرك أن يقضي المرشح 15 سنة في الرهبنة، وعندما تم تجريده من الرهبنة لمدة 9 سنوات لم تحتسب هذه المدة ضمن سنوات الرهبنة.

على الجانب الآخر، نفى تلميذ الأب متى، الأب باسليوس المقاري، وجود أي حرمان أو تجريد، مشيرا إلى أن البابا كيرلس أرسل للأب متى خطابا في "حوالي شهر فبراير" سنة 1966، يناديه فيه بلقبه الكهنوتي [8]، مؤكدا أن سبب الاستبعاد يرجع لوشاية البعض به لدى الحكومة متهمين الأب متى بأنه "شيوعي".

إلا أن القمص أكد بنفسه على تجريده من كهنوته في عظة له عن الرهبنة عام 1975، [9] قائلا "قعدت 10 سنوات مجرد من كهنوتي ومن رهبنتي وباسمي العلماني"، مضيفا "كنت أحس من أعماق قلبي ان اللي حاصل كان خطأ زمني"، لأنه كهنوته "مثبت من الله" – على حد تعبيره.

الأب متى المسكين خلال تسجيل صوتي: عشت 10 سنوات مجرد من كهنوتي ورهبنتي:
via ytCropper

كتاب الكنيسة والدولة

عقب تجريده من الكهنوت، أصدر القمص متى المسكين من صحراء وادي الريان عددا من المؤلفات التي زادت من اتساع الفجوة بينه وبين البابا كيرلس، كان من بينها كتاب "الكنيسة والدولة"، والذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1963، ثم طبعات أخرى في عامي 1977، و1980، وقد تسبب ذلك الكتاب أيضا، في إتساع الخلاف مع البابا شنودة الثالث فيما بعد.

ولم تكن الاعتراضات على محتوى الكتاب بقدر ما كانت في توقيتات كتاباته وإعادة طبعه، إذ أن الكتاب هاجم الخدمة الاجتماعية بالكنيسة ووصفها بأنها "تنازع الحكومة في كل الميادين" وأن ذلك سيحدث "صداما لا مفر منه ما بين الكنيسة والدولة[10] وكان ذلك بعد أقل من عام من سيامة البابا كيرلس للأنبا صموئيل أسقفا "للخدمات الاجتماعية"، الأمر الذي اعتبرته الكنيسة تحريضا للدولة ضد الكنيسة، خاصة في ظل حكم شمولي مثل حكم جمال عبد الناصر.

كما قال الكتاب بأن "الكنيسة ما يزال بها فكر قسطنطين الملك الذي تولى حماية الإيمان بالسيف كحكم إسرائيل الأول" - على حد تعبيره. [11]

كما تضمن تحذير من "الاحتماء بكنائس أخرى قوية[12] وذلك بالتزامن مع إرسال الأنبا صموئيل كعضو ممثل للكنيسة القبطية في مجلس الكنائس العالمي، حيث صدرت عدة منشورات في ذلك الوقت تؤكد أن ذلك المجلس يحرض الكنائس على خيانة أوطانها، وقد ورد ذلك في التقرير الذي رفع إلى البابا كيرلس من لجنة شكلها لفحص ما جاء في كل هذه المنشورات، ونشرت فيما بعد كملحق في الطعن الذي تم تقديمه ضد ترشيح القمص متى بالانتخابات البابوية [13].





كتابات توسع الفجوى ومراجعة عقائدية من البابا كيرلس

كما أصدر الأب متى المسكين عددا من المؤلفات اللاهوتية التي أحدثت الكثير من الجدل وكان أولها وأشهرها كتاب "العنصرة" عام 1960، ثم كتاب "الباراكليت"، وكتاب "الكنيسة الخالدة"، كما أحدث كتاب "المواهب الكنسية" ضجة كبيرة، إذ أُرسل بسببه من مطرانية القدس شكوى للبابا كيرلس، تفيد بأن الكتاب قال إنه لا يوجد فرق بين الأسقف والقس في الكنيسة الأولى، مستعينا بنفس أدلة "الأخوة البلاميث" (طائفة بروتستانتية). [14]

طلب البابا كيرلس من كل من الراهب أنطونيوس السرياني (ثم أسقف التعليم الأنبا شنودة/ البابا شنودة الثالث فيما بعد)، والدكتور وهيب عطالله (ثم القمص باخوم المحرقي/ أسقف البحث العلمي الأنبا غريغوريوس فيما بعد)، أكثر من مرة وعلى مدى سنوات، كتابة تقرير عن هذه الكتب، ورغم اتفاق الإثنين (البابا شنودة والأنبا غريغوريوس) على وجود أخطاء فيها، إلا أن الإثنين اتفقا على عدم رفع أي تقرير للبابا حتى لا يتسبب في مزيد من الأذى للأب متى ولا يظن أحد أنهم يستغلون موقف البابا كيرلس، كما رأوا أنه كان محروما بالفعل في ذلك الوقت، فاتفقا على الرد على هذه الأفكار بشكل إيجابي دون ذكر ما جاء في كتب الأب متى بشكل مباشر حتى لا يؤخذ الأمر بشكل شخصي [15]،[16].
خطابين من البابا شنودة

الوساطة

يحكي تلميذ مطران أسيوط الراحل الأنبا ميخائيل القس بولس بشاي أن المطران حاول في عام 1960 التوسط لدى البابا كيرلس للعفو عن القمص متى، وقابله قائلا له "أنا مستعد آخدهم في ديري (دير الأنبا مقار)"، فنظر إليه البابا كيرلس ولم يجيبه كعلامة للرفض. [17]

وعلى مدار عدة سنوات حاول أيضا القمص صليب سوريال التوسط لدى البابا كيرلس للعفو عن القمص متى، كان أولها عام 1965، حيث أرسل عدة خطابات للبابا، ورد شماس البابا كيرلس، سليمان رزق (فيما بعد أسقف دير مارمينا "الأنبا مينا آفامينا") في خطاب للقمص صليب قائلا بأن البابا "يتمنى حل المشكلة خوفا من فشل باقي الرهبان الموجودين معه" [18]، ورد أيضا البابا كيرلس مؤكدا أنه أعطى لهم فرصة أكثر من مرة للعودة وأنه لا يطلب من الأب متى أكثر الطاعة، مختتما خطابه قائلا: "الله قادر على أن يغفر للمسيئين إلى أنفسهم وإلى كنسيتهم" [19].


المصالحة

ويقول القمص صليب أنه عرض على البابا في مايو عام 1969، بأن يأتي له الأب متى ويقوم هو وأبناءه بتعمير دير الأنبا مقار، مؤكدا له أنه مازال يضع صورته كبطريرك ولم يزلها كما أشيع، وأبدى البابا من جديد استعداده لاحتضانه إذا عاد [20]، ومن جهة أخرى يروي تلميذ الأنبا ميخائيل أنه أثناء مقابلة المطران الراحل بالبابا قال الأخير له "فاكر الموضوع اللي كلمتني فيه من 9 سنين، لسة عند كلمتك ؟، أنا عايز أرتاح من جهتهم قبل ما أموت" [21]، فطلب الأنبا ميخائيل من القمص متى كتابة اعتذار للبابا، مضيفا "رفض الاعتذار لأنه كان عنيد جدا" - بحسب تعبير الأنبا ميخائيل.

سكرتير الأنبا ميخائيل يروي قصة المصالحة:
via ytCropper

وهنا يقول القمص صليب أن الأب متى كتب رسالة الاعتذار أخيرا بعدما ترجاه الأنبا ميخائيل وقام بعمل "ميطانية" (انحناء في الأرض) للأب متى، وقام المطران بشطب بعض العبارات التي كتبها الأب متى، وقدمها للبابا كيرلس الذي قابلهم بالترحاب قائلا "شبت يا ابونا متى"، فرد الأب متى: "البركة فيك"، فداس القمص صليب على قدمه قائلا "بلاش شقاوة"، وحاول القمص صليب تلطيف الأجواء، وقال البابا للأب متى كلمته الشهيرة عند مصالحته لأبناءه: "حاللني"، وعاد الأب متى للكنيسة وقام البابا كيرلس بإعطائه "الشكل الرهباني" قائلا "متاؤس على دير أبو مقار"، إلا أنه رفض الاسم وطلب أن يأخذ نفس الاسم الذي كان يحمله قبل الشلح، فاستجاب البابا كيرلس ونطق: "متى المسكين على دير أبو مقار". [22]، [23].

البابا كيرلس السادس والإمبراطور يوليان

رغم إنتهاء الخلاف، إلا الأب متى لم ينسى للبابا كيرلس ما فعله به عام 1960، ففي كتابه عن "البابا أثناسيوس الرسولي" الصادر عام 1981، (أي بعد إنتهاء الخلاف بـ11 عام)، شبه الأب متى المسكين البابا كيرلس بالإمبراطور الوثني يوليان حينما اضطهد اثناسيوس الرسولي. [24]


المصادر والمراجع:

[1] كتاب "أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية" - إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار - الطبعة الأولى 2008 - صـ51.

[2]المرجع السابق صـ54
[3] المرجع السابق، صـ108.
[4] المرجع السابق صـ162.

[5] كتاب "أبونا القمص متى المسكين.. السيرة الذاتية" (التي دونها بنفسه) - الطبعة الثالثة 2011 - صـ34.

[6] كتاب "أحداث كنسية عشتها.. وعايشتها" بقلم: القمص صليب سوريال – تقديم البابا تواضروس الثاني – صـ126.

[7] كتاب "أبونا متى المسكين: السيرة التفصيلية" - إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار - الطبعة الأولى 2008 - صـ175.
[8] المرجع السابق - صـ215.

[9] من عظة "الرهبنة دعوة إبراهيمية" – ألقاها الأب متى المسكين في 25/8/1975.

[10] كتاب "الكنيسة والدولة" للأب متى المسكين - الطبعة التاسعة - صـ24، 25.

[11] المرجع السابق - صـ29.

[12] المرجع السابق - صـ30 | صـ37، 38 من الطبعة الأولى.

[13] طعن تم تقديمه من قبل بعض كهنة الإسكندرية وبعض العلمانيين إلى قائممقام البطريرك الأنبا أنطونيوس ضد ترشيح القمص متى المسكين للبطريركية عام 1971.

[14] كتاب "المواهب الكنسية" للأب متى المسكين - من صـ35 إلى 38.

[15] خطابين أرسلهما الراهب القس أنطونيوس السرياني (البابا شنودة) إلى الدكتور وهيب عطالله (الأنبا غريغوريوس) الأول بتاريخ 7/8/1961، والثاني بتاريخ 20/10/1961، ونشرا في كتيب "عمق المحبة بين أعظم قطبين" – صدر عن جمعية الأنبا غريغوريوس.

[16] ذكر البابا شنودة نفس ما نشر في الخطابات في محاضرته بالكلية الإكليريكية بتاريخ 30/4/1991، وفي محاضرة أخرى بالكلية الإكليريكية بتاريخ 23/2/1988.

[17] لقاء تلميذ مطران أسيوط الراحل الأنبا ميخائيل، القس بولس بشاي مع قناة CTV بتاريخ 24/11/2014.

[18] الخطاب مرسل بتاريخ 16 يناير سنة 1965، ونشر في كتاب "أحداث كنسية عشتها.. وعايشتها" للقمص صليب سوريال.

[19] الخطاب مرسل من البابا كيرلس بتاريخ 4 فبراير 1967 – المرجع السابق.

[20] المرجع السابق، صـ127.

[21] لقاء تلميذ مطران أسيوط الراحل الأنبا ميخائيل، القس بولس بشاي مع قناة CTV بتاريخ 24/11/2014.

[22] كتاب "أحداث كنسية عشتها.. وعايشتها" بقلم: القمص صليب سوريال – صـ130، 131، 132.

[23] نشرت أيضا نفس الرواية على لسان القمص صليب سوريال بشكل مختصر في كتاب كتاب "أبونا القمص متى المسكين.. السيرة الذاتية" – الصادر عن رهبان دير الأنبا مقار - الطبعة الثالثة 2011 – من صـ43 وحتى صـ50.

[24] كتاب " القديس أثناسيوس الرسولي" للأب متى المسكين - صـ290.

اقرأ أيضا: