التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 02:51 م , بتوقيت القاهرة

ليلة ختان صباح

هناك لحظات فارقة في حياة المرء، تجعله يعي أنه يعيش في فُقّاعة بعيدة عن أرض الواقع، يتحدث فيها عن إشكاليات تعصف بالمجتمع من منطلق الإحصاءات والتقارير لا من منطلق تجارب حياتية قاسية.


تلك اللحظة صفعتني على وجهي وأنا في مقتبل العشرينيات، حين كنت متطوعة في إحدى الجمعيات الأهلية المهتمة بأطفال الشوارع وتسكينهم في دور الرعاية التي كانت تأويهم من مصير بائس في شوارع لا ترحم من العبث بآدميتهم.


"صباح"، أو هكذا اختارت اسما وهميا لنفسها، كانت فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، تعيش في إحدى دور الرعاية التي أنقذتها من التسكع على الأرصفة.


أنزلتني "صباح" من برجي العاجي، جعلتني أُدرك الحجم الحقيقي لمأساة "الختان" التي  كنتُ أُجيد التحدث عنها من منطلق الإحصاءات، ومواد الدستور، وقانون العقوبات، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، و كأنني مسجل صوتي يعيد الشريط من أوله "دون ملال ولا كلال".


"صباح" كانت فتاة استغلها قواد احترف تشغيل الصغيرات، حكت لي عن شعورها بأن الله أتم نعمته عليها بعد أن حالفها الحظ في هذه الدار القابعة بضاحية حلوان، وأعربت عن خوفها من الرحيل. أفضت إليّ كم شعرت بالتقزز والألم وهي ُتجبر على ممارسة علاقات مع رجال أضعاف عمرها، والفاجعة الأكبر، أن القواد رب عملها كان هو من تولى الإشراف على ختانها!! هي وغيرها من الفتيات اللائي اكتشف القواد أنهن غير مختونات.


ارتسمت على وجهي ملامح السذاجة وأنا أستفسر بكل حماقة لماذا قام القواد بإجراء عملية ختان لصباح ورفيقاتها؟. الإجابة أصابتني بالصمم لوهلة حين ردت صباح  قائلة باللغة الدارجة: "علشان يشغلني كويس".


"صباح" ليست حالة فردية وهذا ما أدركته لاحقا، القواد يعي تماما أنها ستضحى فاقدة للحس كليا أو جزئيا إن خضعت للختان، فهي تُمارس العلاقة كالآلة، ولا أحد يهتم لآلامها أو مصابها. فالموروث الشعبي يروج  للختان على أنه رمز العفة، لأنه يحد أو يفقد المرأة لرغبتها الجنسية، لكنه في حقيقة الأمر  لا يُفقدها القدرة على الممارسة الجنسية.


لا أعلم مصير صباح ولكنني أتذكر ملامحها جيدا، وتذكرتها بالتأكيد وأنا أستمع للتصريحات "القطبية" في الختان التي أثارت جدلا واسعًا، خاصة حين أشارت د. هبة قطب إلى أن كثيرا من البغايا مختونات بالفعل، وهذا لم يمنعهن من ممارسة العلاقات الجسدية.



هنا تحديدا تكمُن المشكلة، فـ كيف لا تُدرك الطبيبة الدارسة الفرق بين الممارسة والاستمتاع الحسي؟ فمن  قال إن البغايا بالضرورة يستمتعن بعملهن حسيًا؟


تناقضات النظرية القطبية


وحتى يتميز الرأي بالدقة، لابد أن نعي أن د.  هبة قطب لم تُحرض على الختان مباشرة، لكنها عادت لتقول إن الختان لا يؤثر حسيًا أو سلبيًا على الفتاة المختنة، وهنا دست الطبيبة السم في العسل. وكأنّها تُقِر بأن بتر اليد جريمة، لكنّها لن تمنعك من السير على قدميك!!


حاولت "قطب" أن تُعضد نظريتها بالعلم، وفي ذات الوقت تستشهد  بأحاديث نبوية؟ وهو أمر شديد الانتشار بين مروجي ما يُعرف باسم "الطب الإسلامي"، وهو نوع من الدجل باسم الطب.


 لا يوجد طب إسلامي ولا مسيحيّ ولا يهودي ولا بوذيّ في عصر الاكتشافات العلمية، توجد فقط  نظريات علمية نسبية قابلة للتعديل كلما تم اكتشاف ما هو جديد، وهو أمر بعيد، كل البعد، عن اكتشافات مصدرها أحاديث البخاري وسنن ابن ماجة.


الختان الفرعوني والختان السني


لطالما كانت د. "قطب" تحرص على التفريق بين الختان الفرعوني، الذي يستأصل البظر ولشفرتين، وبين الختان الإسلاميّ السنيّ، الذي يستأصل الجزء العلوي من البظر، الأول اعتبرته مضرا والثاني لا بأس به، على حد أطروحاتها، وكأنّنا نروج طبيًا لنظرية بتر الساق على طريقة أن البتر سيكون مضرا من أعلى الركبة وحميدًا من أسفل الركبة!! ما فعلته د. قطب  هو الترويج للختان من الباب الخلفي على شرط أن يكون ختانا سنيا.


بعدما قرأت ما ورد في واحدة من مقالات د. قطب، تخيلتها في مؤتمر عالمي عن الختان، والذي يعرف في العالم بأسره بـ "بتشويه الأعضاء التناسلية للإناث"، وهي تشرح رفضها  كطبيبة لتجريم الختان؛ لأنه لم يرد نص ديني صريح بالتحريم وأنها تعتقد أن التحريم تشددٌ.


تخيّلت د. قطب في مؤتمر طبي وهي تشير إلى تشويه الأعضاء التناسلية بصفة "بالختان العلاجي"! وتخيلت ذات الطبيبة في مؤتمر عالمي، وهي تستشهد بفقة السنة لتبرر تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، في زمن وصل فيه الطب لزرع الأرحام.


ما قالته الطبيبة المثيرة للجدل سنجده مذكورًا لا في دوريات طبية عالمية، وإنما في منتديات صيد الفوائد الإسلامية، ومنتدى المصطبة وبدون مزاح سنجده في منتدى نسائي شهير اسمه "منتدى فتكات".


هل لنا أن نتساءل عن موقف نقابة الأطباء؟ أم نخشى السؤال خوفًا من سماع تأييد نظريات الفقة الإسلامي في الطب؟ فالنظرية القطبية في الختان منتشرة بين كثير من الأطباء من داعمي نظريات الطب الإسلامي.


معركة الختان.. معركة أصولية


تشويه الأعضاء التناسلية للفتيات ظاهرة طالت 90 % من المصريات حسب تقارير اليونسيف، وهي عمليات لا تخلو من حالات الوفيات وكان آخرها وفاة طفلة أثناء عملية ختانها، وكانت الفجيعة وقوف أهلها يدافعون عن الطبيب بحجة القضاء والقدر.


حرصت المنظمات المناهضة للختان دومًا على نيل مساندة رجال الدين الوسطيين في محاربة ظاهرة الختان، وتلقت تلك المنظمات قصمات كبيرة حين أعلن شيخ الأزهر بنفسه "جاد الحق على جاد الحق " موقفه الرافض من تجريم ختان الإناث بعد مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994، وشدد أن ختان الإناث من فطرة الإسلام.


ولم يكن موقف شيخ الأزهر حينها هو الوحيد الرافض لتجريم الختان في مؤسسة دينية عُرف عنها الوسطية والاعتدال.


استند كثيرٌ من علماء الأزهر حينها- الرافضين لتجريم ختان الإناث - إلى فتوى سابقة لمفتي الديار المصرية علام نصار الذي أفتى بأن الختان من شعائر الإسلام ولا يجوز للحاكم مخالفته.


الإشكالية ستكمن في انتقال المعركة من ساحة فتاوى شيوخ الأصولية إلى ساحة الأطباء أمثال "قطب"  الذين يسعون لربط الطب بالفقه الإسلامي.


وبينما تشتد المعركة والتنظير ومحاولة إثبات الإعجاز العلمي لختان الإناث ينشأ لدينا أجيال من فتيات يعرضن للتدمير النفسي جراء خضوعهن  لعمليات تشويه ممنهج لأجسادهن.


اقرأ أيضا