التوقيت الجمعة، 17 مايو 2024
التوقيت 04:05 ص , بتوقيت القاهرة

حوار (ج 1)| "دوت مصر" يفتح صندوق أسرار شاعر الفقراء سيد حجاب

حوار: سها السمان


سيد حجاب: أنا شاعر على باب الله والوطن والإنسانية


حصلت على اسمى بعد زيارة السيد البدوى لأمى فى المنام وتبشيرها بقدومى


كنت الخامس بين تسعة إخوة.. وكتبت أولى قصائدى فى الحادية عشرة


علمنى والدى العروض وبحور الشعر.. ولم أعرض قصائدى العامية عليه أبدا


سيطرة الفصحى على الإحساس الثقافى ظلمت نتاج هائل من شعر العامية


مدرس اللغة العربية فى الثانوى أو من وجهنى لمخزون الصيادين الثقافى الهائل


انضممت للإخوان فى مرحلة الطفولة.. وفى الشباب التحقت بفصيل على يسار اليسار


 


منذ عامين عندما ذهبنا للشاعر الراحل سيد حجاب لإجراء حوار معه بشأن مشوار حياته كنا نتلمس من كلماته وذكرياته ضوءا وأملا وسط أجواء سياسية واجتماعية ملتهبة، فكانت المفاجأة عندما وجدناه يحمل مصباحا وينتظرنا على سلم منزله بالمعادي لينير لنا الطريق وسط ظلمة انقطاع الكهرباء، ذهبنا إلى الشاعر الكبير بنية تقديم بروفايل عن حياة واحد ممن ساهموا بقوة في تغيير وجه الشعر المصري، وإطلاق القدرات الكامنة لما تحمله العامية من روح وحياة، كانت المحاولة هي الدخول لعالمه الخاص، فإذا بالحوار يدخلنا إلى صندوق الدنيا الخاص بالشاعر حيث للكلمات معانٍ مركبة تتركك في حيرة وتساؤل: كيف لم تكتشف معناها من قبل!


عندما فتح سيد حجاب صندوق ذكرياته لمحنا داخله روح مصر الحقيقية، بفنانيها ومثقفيها وأجمل من فيها، وما فيها، بأسلوبه الأخاذ أعاد إحياء هذه الأحداث لنعيش فيها ونتجول مع عمالقة الفن والأدب عبر ذاكرة حجاب، الذى بدأ حديثه معنا بالقول: "أنا شاعر على باب الله والوطن والإنسانية، الله عندى هو الحق، ولا أحب ولا أعبد غيره، والوطن عندى هو الخير العام الذى يجب أن يتقاسمه الناس معا سواء كان الوطن مصر العبقرية، أو الكوكب الذى نعيش عليه، والإنسانية عندى هى كمال الجمال بين مخلوقات الله. أنا من الجيل الذى ولد أعقاب الحرب العالمية الثانية ووصل فى الستينيات لسن التعليم العالى وسوق العمل، وهو الجيل الذى قام بثورة فى الكرة الأرضية فى الشرق وكان هناك ما يسمى بالستار الحديدى أو المنظومة الاشتراكية، وفى الغرب كان المعسكر الرأسمالى، لما بلغنا العشرينات من العمر ثرنا على الأنظمة التى نشأنا فيها خاصة البلاد النامية مثل مصر المحتلة طلبا للاستقلال والحريات.



يحكي سيد حجاب عن الطفولة والأسرة والبداية:


ولدت فى 23 سبتمبر عام 1940 من القرن الماضى، فى مدينة صغيرة على ضفاف بحيرة المنزلة بالدقهلية، اسمها المطرية وهى مدينة الصيادين، كانت على أيامنا تصدر الأسماك لكل جهات مصر قبل تلوث البحيرة ويتم تجفيف أجزاء منها لتتحول لبركة راكدة صغيرة الآن. احترقت بلدنا فى أوائل القرن العشرين وأعيد تخطيطها، ولأنها شبه جزيرة فقد بدت كشبكة ألقيت على الأرض بعد إعادة التخطيط. الشوارع متعامدة بحيث تتركز المربعات السكنيه بينها، ومن أى مكان تقف تمد بصرك فترى البحر وأشرعة السفن، ولأنها شبه جزيرة ثلاث جهات منها على البحيرة والجهه الرابعه تنتهى بالمقابر وتسلم لبقية اليابسة التى تشكل بقية محافظة الدقهلية.


ولدت لأب أزهرى سابق جاور فى الأزهرعدة سنوات، ولم يتم تعليمه هو أو باقى أعمامى، تزوج من أمى دولت هانم مصطفى عوض واحدة من القليلات اللواتى يفكن الخط فى البلد، وكان أول أبنائهما صلاح المهندس الاستشارى ورئيس اتحاد معمارى الشرق الأوسط، وبعده ابتسام، ثم سعاد، ثم وداد ثلاثة بنات بشكل متتالى فنزلت أمى على السيد البدوى فى طنطا، ومارى جرجس فى ميت دمسيس ونذرت نذرا،  لو رزقت بالولد، وأثناء حملها فى وقبل الميلاد جاءها السيد البدوى فى المنام وقال لها يا دولت أبشرك بغلام.. فقرروا تسميتى بالسيد على إسم السيد البدوى، لذلك أنا رقم خمسة فى ترتيب أشقائى تلانى كاريمان، فشوقى وأصبحنا تسعة.


- أيهما كان الأقرب والأكثر تأثيرا على شخصيتك.. الوالد أم الوالدة؟


والدى كان  موظفا صغيرا، عمل كمعاون لمستشفى الرمد بالمطرية، فى طفولتى كنت أسمع أنه يكتب الشعر لكن لم يسعدنى الحظ أبدا بسماع شعره، وكان حافظا لكثير من قصائد الشعر والمعلقات، والكثر من أعمال ابن الرومى والمتنبى وغيرهما.


 فى الشتاء كان الوالد يرصنا نحن الأبناء حوله، ويلعب معنا المطارحة الشعرية، يقول بيت من الشعر فنأخد آخر البيت ونبدأ به بيت جديد وهكذا.. وكان الدور يأتى عندى فينتهى ما أحفظه من الشعر الذى كنا نتعلمه فى المدارس الأولية فكنت أرتجل بيتا (أعدى بيه الليلة)، وبيت ورا بيت كبر فى وهمى أنى اكتب الشعر لكنها كانت مجرد أبيات.


هل كان الوالد يقصد بهذه اللعبة تنمية مواهبكم اللغوية؟


كانت التسلية أيامنا محدودة، وكان الأمر كألعاب المائدة لدى الأجانب، ونحن نشأنا فى بيت به مكتبة، وكان التعليم كذلك مختلفا، كنا نتربى على احترام اللغة العربية ونعتبرها أقدس وأرقى من العامية.


كطفل تربى فى مدينه الصيادين كيف تأثرت بهذه الأجواء؟


العامية كانت تحيط بنا من كل الجهات فى الحياة اليومية وفى غناء الصيادين وزوجاتهم أثناء العمل، والحقيقة إذا كان العرب يقولون أن الشعر هو ديوان العرب، وهو الذى حفظ تاريخهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأفكارهم، وأحداث حياتهم فأنا أقول إن الغناء هو ديوان المصريين، المصريون يغنون لكل لحظة من لحظات الحياة من لحظة الميلاد للحظة الرحيل.


هل تتذكر أول قصيدة كتبتها فى الطفولة؟


كان عمرى 11 عاما وكانت القصيدة بالفصحى وارتبطت بحدث هز مشاعرى. فى عام  1951 انفجرت موجه الكفاح المسلح ضد الإنجليز، وكان الفدائيين يقومون بعمليات فى قلب المعسكرات الانجليزية، ولأن المطرية قريبة من بورسعيد وهى المدخل والمهرب منها، ونحن جيل تربينا على شعارات الجلاء التام أو الموت الزؤام، وكنا نقيم جنازات صامتة للشهداء، كان هناك قضية وطنيه مستعرة، ومصر تحت الاحتلال، وكل البيوت تحلم بالاستقلال وجلاء الانجليزعن مصر. فى هذا العام استشهد ولد فى نفس سنى تقريبا هو (نبيل منصور)، أثناء إحدى العمليات الفدائية رصد الانجليز المتسللين وقتلوهم وكان من بينهم نبيل منصور فكتبت أول قصيدة كاملة عنه لأنى شاركت فى المظاهرة وعدت بعدها للمنزل، وكنت أشعر بشحنة الغضب التى لم تخرج بشكل كاف، فأغلقت على نفسى باب غرفة الجلوس وكتبت:


كنا غزاة وأبطالا صناديدا/ صرنا لرجع الصدا فى الغرب ترديدا...


هل عرضت القصيدة على والدك؟


والدى عرف من شقيقاتى إنى أملأ كراسات بالشعر فطلب رؤيتهم، وعندما قرأ والدى ما أكتبه قال لى: أنت شاعر بالسليقة يا شيخ سيد -كان يقول لى يا شيخ سيد نسبة للسيد البدوى- ويجب أن تعرف أن الله منحك هذه السليقة الشعرية كى تحمده عليها، وكانت أول مرة اكتشف أن لعب العيال الذى اكتبه له وظيفة، وأضاف أن السليقة الشعرية يجب أن تصقل بالدرس، لذا قرر أن يبدأ تعليمى العروض، بعدها وعلى مدار ثلاث سنوات كنت أجلس بجانب والدى وهو يشرب قهوة العصارى أقطع وأشطر له الأبيات الشعرية بطريقه الأزهريين، وجعلنى اتقن العروض، وأصبحت أقوم فى المدرسة بدور القبانى، يعطينى الزملاء ما يكتبوه  كأشعار لأضبطه لهم، وأصبحت أنشر الشعر فى مجلات الحائط بالمدرسة، ووصلت المسأله لشئ أراه كوميديا وعبثيا حينما كان أحد المدرسين يستدعينى ومعه قائمة بالمناسبات خلال العام الدراسى ليطلب منى كتابة أبيات لينشدها هو فى الإذاعة المدرسية وكأنها من بنات أفكاره.


فى هذه المرحلة هل كان اهتمامك ينصب على كتابة الشعرفقط؟    


حين دخلت مدرسة أحمد ماهر الثانوية بالمطرية -وهى المدرسة التى افتتحها طه حسين بنفسه - بدأت أمارس رياضات متعددة: كرة السلة -رغم قصر قامتى- وكرة اليد وبينج بونج والكرة الطائرة، وفى هذا الوقت كان الأستاذ شحاته سليم مشرفا على الفرق الرياضية، وكنا نسافر لنمثل مدرستنا فى البطولات الرياضية برفقته فكان خلال هذه الفترة يتولى تثقيفنا موسيقيا ويعطينا دروسا فى الفن الكلاسيكى، وكان أول أستاذ لنا يفتح لنا عقولنا على الثقافات والأجناس الأخرى، كنا نتلقى تعليما ممتازا وقتها، كنا آخر أجيال النهضة التى تفجرت من أيام رفاعة الطهطاوى مرورا بطه حسين، كانت المدارس تضم غرفا للموسيقى، وفرقا للتمثيل، ونشاط رياضى، كان مفهوم التعليم يختلف عما ساد فى مصر خلال الثلاثين سنه الأخيرة. أعطانى الأستاذ شحاته سليم ثانى أهم الدروس فى حياتى حينما طلب رؤية أشعارى وعاد ليقول لى بعدها: أعجبنى شعرك جدا لكنى فى الحقيقى لا أفهم فى الشعر. عرفت وقتها أن الكبير قد لا يعرف لأننا كنا تربينا أن الكبير هو ( أبو العريف) فكان أول كبير أراه يقول أنا لا أفهم فى الشعر.


 ذهبت بأعمالى للأستاذ عبدالكافى أستاذ اللغة العربية فى المدرسة فقال لى أنه مضبوط ومقفى بشكل صحيح لكنه أضاف ملاحظة بأنى أكتب مشاعرى، قلت له أننى أكتب ما أحسه وقتها، وأن الشعر من الشعور، فرد بأن  مشاعر الإنسان تعد على أصابع اليد: فرح، حزن، غضب، تكتبها مرة تكون جميل، تكتبها ثانيه تكون أجمل، تكتبها للمرة الثالثه تصبح صنايعى! جاء كلامه كلطمة فى وجهى، فسألته ماذا أفعل؟ قال: حولك فى البلد 30 ألف صياد، داخل كل منهم 10 قصائد لا تجد من يكتبها. شعرت أنى "على  بابا" الذى فتحت أمامه أبواب الكنز، وضربتها فى رأسى هناك 300 ألف قصيدة فى انتظارى، وبدأت أقترب من أبناء عمومتى من الصيادين فكنت أدخل بيوتهم وأسرح معاهم فى البحيرة بحثا عن هذه القصائد.


هل صحيح أنك انضممت لجماعة للإخوان فى مرحلة الشباب؟


الدين جزء أساسى من تربيتنا بشكل عام، وكنت أنزل للجامع مع الصبيان وننشد السلام ما قبل رفع الآذان، وانتميت بالفعل لأشبال دعاة الإخوان، وكنت ألقى كلمة شعرية فى حديث الثلاثاء بشعبة الاخوان المسلمين بالمطرية، وترددت على مقار مصر الفتاة، ولكن حين انهيت دراستى الثانوية وذهبت للجامعة فى الأسكندرية كنت قد توقفت عن كل هذا.


هل بدأت فى هذه المرحلة الاتجاه للعامية فى الكتابة؟


حينما اقتربت من حياة الصيادين واجهتنى مشكلة اللغة، كيف أعبرعن هذه العامية باللغه الفصحى! وقتها كان اتجاه القصص الحديث ليوسف إدريس ويوسف الشارونى يظهر، فبدأت أكتب قصائد السرد فيها بالفصحى، والحوار بالعامية، وبعد فترة قصيرة أحسست أن الموضوع "سئيل" فبدأت أكتب قصائد بالعامية، وأخرى بالفصحى، ومن هنا بدأت حالة الازدواج اللغوى بين الفصحى والعامية، وأول قصيدة كتبتها بالعامية كانت عن يتيم ابن صياد قتيل:


الفجر أدن يا بويا قوم بطراحة/ سيبك من النوم وم الأحلام وم الراحة/ قوم للشقى يا أبا مين بياكلها بالراحة/ ولا كلمة يا أبا ولا تردش على ولدك/ ليه يا أبا ليه الدموع نخلتها طراحه/ العيد ورا العيد فات ما حيانى/ لا فى جديد للعيال ولا نور أحيانى/ ولا جديد إنما صوت أمى حيانى/ ورا كل ميت تصوت والدموع تجرى/ كأنها دمك أنت يا أبا آه يانى .


وكتبت بعدها أول قصيدة من شعر التفعيلة:


شهور يا أما وأنا عايش ماليش أمه/ وأقول يا أمه ولا ترديش/ أنا عارف بإنك واخده على خاطرك لكن يا أمه/ أنا هربان عشان خاطرك/ عشان يسكت لسان جوزك ولا يقولشى/ أنا هرميكى فى الشارع اذا ابنك دا ضرب ابنى/ ويضربنى وأجرى والدموع تجرى وتجرى عليه عشان تحوشيه/ ويرمى يمين تكونى طالقه يا أم حسين إذا حوشتى.


 وهل كنت تعرض قصائد العامية على والدك؟


لم أعرض أبدا على والدى أى قصائد بالعامية، لأننا ظللنا محملين بالتقييم الثقافى السائد أن الفصحى أرقى من العامية والأقدر على حمل الأغراض العليا من الشعر، أصحاب هذه الرؤية لم يتصوروا أن العامية قادرة على التعبير عن أدق المشاعر الانسانية، أو كان معظمهم يتجاهل ذلك، والنتيجة هو الظلم الكبير لنتاج هائل من شعر العامية مثل: بيرم التونسى، النديم، وغيرهم، لأن التركيز كان على الفصحى، وقد أدرك ابن خلدون هذه المسألة وقال إن فى شعر الأمصار المستعربة كثير من المعانى الراقية والصافية التى قد يعجز الشعر المكتوب بالفصحى عن التعبير عنها، لكن هكذا النحاة لا يرون كما ينبغى.


اقرأ أيضا:


حوار (ج 2)| "دوت مصر" يفتح صندوق أسرار سيد حجاب.. "عبد الناصر والمعتقل وجاهين"


حوار (ج 3)| "دوت مصر" يفتح صندوق أسرار سيد حجاب.. "مبارك والشريعي ومحكمة اليساريين"


حوار (ج 4)| "دوت مصر" يفتح صندوق أسرار سيد حجاب.. "25 يناير والحلم"