التوقيت الثلاثاء، 07 مايو 2024
التوقيت 05:12 م , بتوقيت القاهرة

الدولة والجماع: مقال يميني متعفن!

لم تتوقف الدولة، منذ أن كان أبي شاباً في الستينات، عن دق نواقيس الخطر محذرةً من الانفجار السكاني. والآن، وبعد أن دخلت مصر حزام البراكين السكانية بوصول ثروتها البشرية (معفاةً أغلبها من الضرائب) إلى التسعين مليوناً، فقد يكون من الحكمة أن تتوقف الدولة عن دق النواقيس تقليلاً للضوضاء وتوفيراً لأجور من يقرعون النواقيس وأجور من يصنعونها أيضاً.

الحقيقةُ أنه بعد ثورتين عظيمتين لم ير لهما العالم مثيلاً في القدرة على توحيد ما يقرب من عشرة ملايين حيوان منوي مع عدد مقارب من البويضات في خمس سنوات لا أكثر، قد يكون على الدولة التي ينص دستورها على احترام الحريات الشخصية أن تحترم حرية المواطنين في الإنجاب وأن تتوقف عن التدخل الوقح فيما لا يعنيها من أمور شديدة الخصوصية والحساسية.

نعم سيدي القاريء.. إنه لمن الوقاحة أن تطالب الدولة (صانعة القوانين وحاميتها) مواطنيها بالتوقف عن ممارسة سلوك سليم تماماً من الناحية  القانونية؛ خاصةً إذا تعلق هذا السلوك بغريزة من أقوى الغرائز البشرية وأكثرها سطوةَ على النفوس الطيبة والشريرة. بأي حق تتدخل الدولة (ذلك الكيان الاعتباري) في أسلوب ممارسة الناس للغريزة الجنسية التي تؤدي إلى الإنجاب؟ 

سوف يتهمني القاريء هنا أنني أسطح الأمور أو على الأقل أبسطها. وسوف يسوق الحجة القائلة بأن الناس لا ينجبون بسبب الجماع، ولكن بعضهم ينجب حباً في البنين (وربما البنات)، بينما ينجب البعض الآخر خشيةً من عدم اتباع قواعد الدين التي تحرم (وفقاً لقناعته) تحديد النسل، وينجب بعضٌ آخر بغرض تكوين أسرة يشعر في كنفها بالدفء شتاءً والبرودة صيفاً، وينجب بعض الناس لرغبتهم في الاستحواذ على نتاج عمل أبنائهم لاحقاً، وينجب غيرهؤلاء وأولئك طمعاً في الرزق الوفير الذي يؤمنون أن العيال سيأتونهم به من السماء.. أليس كذلك سيدي القاريء؟

فليسمح لي القاريء واسع الصدر أن أتهمه بدوري بالخلط كما اتسع صدري لاتهامه لي بالتسطيح. فالقاريء المقتنع بالحجة الواردة في الفقرة السابقة ــ والتي يظنها كافيةً لإقناعنا بعدم معرفتنا بالسبب الذي ينجب الناس من أجله ــ يخلط خلطاً بيناً بين الأسباب المتعددة التي يسوقها الناس (صدقاً أو كذباً) لرغبتهم في الإنجاب مع السبب الوحيد الذي لم يكتشف العلم غيره للآن للإنجاب، وهو الجماع؛ والدليل على ذلك بسيط جداً.

عندما يطلق رجل وامرأة العنان لرغبتهما الجنسية في ذلك النوع من العلاقات التي تصفها الصحف بالآثمة، فهما لا يفعلان ذلك (على ما أظن وعلى ما يبدو من طبائع الأمور) رغبةً في تكوين أسرة سعيدة أو استجلاباً لرزق في السماء أو احتراماً للرأي الفقهي الذي يحرم تحديد النسل أو بحثاً عن يد عاملة يستولون على نتاج عملها؛ بل يفعلان ذك رغبةً في تمضية وقت لطيف لا أكثر. لكن في أحيان غير قليلة ينتج عن هذا الوقت اللطيف طفل. وكما نعرف من ذات الصحف أن في أحيان غير قليلة (إذا لم تكن المرأة متزوجة فتنسب الطفل لزوجها) ينتهي الأمر بهذا الطفل على قارعة الطريق حيث يجده المارة، الذين يسلمونه مدفوعين بالشفقة إلى الدولة أو إلى أحد دور الرعاية. وسوف يكون عليك يا سيدي القاريء أن تساهم في توفير جزء من نفقات هذا الطفل، إما طواعيةً من تبرعاتك لدور الرعاية بصفتك رجل عطوف، أو إرغاماً من ضرائبك التي تسددها للدولة بصفتك مواطن ملتزم بالقانون.

ولقد وقعت الدولة نفسها في هذا الخلط لعقود طويلة مهدرةً قدراً كبيراً من ثروات البشر في كفاحها ضد الثروة البشرية. لقد أنفقت الدولة أموالاً لا حصر لها لعقد مؤتمرات وتنظيم برامج تؤكد للناس أن تحديد النسل لا يعارض الدين "مفترضةَ" أن كل من يدعي أنه يواصل الإنجاب خشيةً من إغضاب الله هو صادق في ادعائه. سنت الدولة تشريعات وقوانين تحدد سن الزواج وتمنع تشغيل الأطفال "مفترضة" أن الناس سيلتزمون بهذه القوانين دون أن تملك الدولة أي آلية حقيقية لتطبيقها. أنفقت الدولة عشرات بل وربما مئات الملايين من الجنيهات على الحملات الدعائية التي تحاول إقناع الناس أن قلة الإنجاب تمكنهم من توفير حياة أفضل لأبنائهم "مفترضة" أن من يواصلون الإنجاب يهتمون فعلاً بتوفير مستقبل أفضل لأبنائهم. 

الحقيقة التي تصرخ في وجوهنا مرةً كل عشر ثوان هو أنك إذا أردت التحكم في الإنجاب عليك التحكم في الجماع وهوما يناقض الحرية. كما أنه ليس من حق دولة تحترم مواطنيها وحقوقهم أن تفرض (كما فعلت الصين مثلاً في وقت ما) قانوناً يحدد لكل زوجين عدد الأطفال المسموح بإنجابهم. بل ليس من حق الأغلبية في أي مجتمع يدعي أنه حر أن يسلب رجلاً واحداً أو إمرأةً واحدة حقهما في الإنجاب المبني على حقهما في الجماع.

لكن للدولة، ممثلةَ في مجالسها التشريعية وسلطاتها الرقابية والقضائية والتنفيذية، حقوق أخرى. من حق الدولة أن تضع القوانين التي تنظم موارد شعبها وتحافظ عليها بالشكل الأمثل. من حق الدولة أن تضع الأثمان العادلة للتعليم والخبز والأمصال وألبان الأطفال ورسوم استخراج شهادات الميلاد وبطاقات الهوية وجوازات السفر والأدوية وأسعار الكهرباء والغاز وأراضي البناء والمساكن وكل شيء. ألا يقولون لك أن الإنسان في بلادنا رخيص؟.. حسن، فلتجعل الدولة الإنسان غالي الثمن.

لكن لكي تستطيع الدولة (بكل هيئاتها) فعل ذلك (دون أن تكون دولة دكتاتورية )عليها أن تحظى أولاً بموافقة الأغلبية من المواطنين. والأغلبية يا سيدي ليست أنا أو أنت أو غيرنا من الملايين التسعين. الأغلبية هم الرجال والنساء الذين يختارهم الشعب بإرادته الحرة في إنتخابات حرة نزيهة وهو على ثقة بأنهم سيقومون بممارسة حقوقهم  القانونية في حماية مصالحه.

هنا يثار تساؤل عميق عن جوهر الديمقراطية. وقد تواصل مصر الإنجاب حتى تحظى بـ "الذكور".. هؤلاء الذين سيمتلكون الإرادة الكافية للإجابة عن هذا التساؤل وكل التساؤلات الأخرى غير مكترثين بشعبيتهم.