التوقيت الخميس، 25 أبريل 2024
التوقيت 02:15 ص , بتوقيت القاهرة

عبد الرحمن الأبنودي: يا تراب بلدنا ضم جسد إنما صاحبه هيفضل حي

الابنودي
الابنودي
"أفندي ومجعوص نقلني ووداني قوص".. هكذا قابل الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي قرار رئيسه في العمل، موصيًا بنقله من محكمة قنا إلى قوص، وقتئذ لم يتردد الشاب الصعيدي في تقديم استقالته، ليبدأ الرحلة مع رفيقه أمل دنقل، وتستقبل قاهرة الخمسينات شاعرًا من طراز خاص، يعبر عن الفلاح الأسمر الممسك بالشادوف، وعندما يستظل تحت شجرة يغني لـ وهيبة، وفي الأزمة يرقب مصر وهي تغسل شعرها، وبداخله ثقة أن مهرها يستعصي على الجميع سداده.
قيل لمحمود درويش "أنت شاعر الوطن العربي الأول"، فرد قائلًا: "ماينفعش والأبنودي عايش"
في 11 أبريل عام 1938، أصبح محمود أحمد عبد الوهاب الأبنودي، المأذون الشرعي لقرية أبنود بمحافظة قنا، أبًا للمرة الثالثة، أسماه عبد الرحمن، فور أن استطاع الركض، أطلق ساقيه للريح إلى كُتّاب الشيخ، وبيت عمته أمنة، التي خلدها في قصيدة "يامنة"، الفطرة حاوطته كأنها رقوة شيخ باركت كلماته، وبحة صوته المميزة، وسمار بشرته حتى الممات.
 
* الأرض والعيال
في سنوات عمره الأولى، انفصلت أمه "فاطنة" عن والده، وبدأت مرحلة الكفاح، الصفات الوراثية التي انتقلت إليه من أبيه ثبتت أقدامه، المأذون محمود كان طفلًا يهرب من العمل في طاحونة إلى الكتاب، وطالما جاب به والده– جد عبد الرحمن- حواري القرية إلى العمل، ومع ذلك استطاع استكمال تعليمه، حتى صار مدرسًا للغة العربية، وأصدر دواوين الشعر، وفي النهاية صار مأذونًا. حسنًا على الابن أن يصنع أسطورته الذاتية مثل أبيه، إذا سألوا فاطنة عن ولدها عبد الرحمن، تخبرك أنه يجني القطن في الغيط، أو يجمع سنابل الغلال، وربما يرعى الغنم.
 
في حِجر جدته لأمه، عرف الحكايات الشعبية والأغاني الفلكورية، وطقوس دينية مزجت الفرعوني والقبطي والإسلامي، منها عرف حكاية أبنود التي يومًا ما وقفت في وجه جنود الحملة الفرنسية، وأغرقت سفن الجنرال ديزيه، تاريخ وسيرة لا تقل مجدًا عن السيرة الهلالية التي افتتن بها، وعندما أشتد عوده "الشعري"، أمضى عشرين عامًا في رحلة مع سيرة بني هلال المهددة بالانقراض، يستقي من جابر أبو حسين، وسيد الضوي، وغيرهم من الشعراء والرواة ملامحها قبل الزوال.
* الأحزان العادية
في القاهرة، عام 1958، يقف الصعيدي عبد الرحمن الأبنودي وعلى كتفيه التاريخ، والتراث، والفلكلور، وطين مصر، جلس على قهوة "إيزائيفتيش" في باب اللوق، يدخن بشراهة، ويكتب القصائد، وينادم الأدباء والشعراء، وتبدأ دواوينه بـ "الأرض والعيال" عام 1964، والزحمة، وجوابات حراجي القط، وأحمد سماعين، وفي الإذاعة نسمع كلماته الطازجة في أغاني محمد رشدي، ومحمد العزبي، وعبد الحليم حافظ، وشادية، ومحمد منير، وغيرهم.
"أنا واحد ممن لا يضعهم أصحاب الإنتاج الفني في اعتبارهم، لأن أعمالي متهمة بأنها ذات قيمة فنية.. ومع ذلك استطعت كتابة العديد من الأغاني النظيفة" – عبد الرحمن الأبنودي – روز اليوسف 1990
قبل نزوحه للقاهرة بعامين، كانت عطيات عوض محمود خليل، تنتقل من المنصورة لشقة أخيها في القاهرة لدراسة الحقوق، لكن نداهة الأدب والفن تدفعها بعد سنوات للقاء الشاعر الشاب الذي أثار ديوانه "الأرض والعيال" ضجة بعد مصادرة قصائده العامية، في مكتب الأديب الراحل عبد الفتاح الجمل، بدأت قصة الحب، وبعد أن تزوجا يكتب أشهر أغانيه "عدوية".
fa1a63d3436c1ad73a12f858e0ca8b8a--egyptian-beauty-cairo-egypt
"كلمتين وهترجع على طول إن شاء الله".. بتلك الكلمات بدأ زوار الفجر تفتيش منزل عبد الرحمن الأبنودي وعطيات، 9 أكتوبر 1966، وأمام بروازي صور فارغين أعجبه شكلهما هكذا، قال الضابط: "لحقتوا تخبوا صور زعيمكم لينين، وماوتسي تونج".
"أستطيع أن أقول إن زيجتي الأولى كانت زيجة الحياة العملية، أما الأخيرة فهي إطار للسكينة والإيمان بقيمة الشاعر" – عبد الرحمن الأبنودي، صحيفة الوفد 1991
ويدخل الخال المعتقل بتهمة الشيوعية، تبدأ زوجته عطيات الأبنودي، في تسجيل يوميات الفراق والسجن، لتنشر بعد سنوات في مذكراتها "مواسم للغفران" (عدلها الناشر إلى عنوان جديد: أيام لم تكن معه)، في إحدى رسائلها إليه تسرد تفاصيل يومها حتى لا يشعر الغائب بملمس القضبان: "نزلت واشتريت لي قمصانًا للنوم، نوم إيه، جلاليب قصيرة للبيت، أشياء ستحبها، أحس بالذنب لأني أشتري أشياء خاصة بي، ألوان القمصان مشرقة كالتي طلبت مني أن ألبسها يوم أخذوك مني، هل تذكر؟ ستحبها كثيرًا، وتمنيت أيضًا أن أشتري التايير الذي وعدتني به، ولكن ليس معي أموال تكفي، اشتريت بنًا وشايًا كالعادة، ذهبت إلى الإذاعة في السادسة والنصف، سجلت حلقة (من الحياة) برنامج إذاعي عدت للبيت، تعشيت أنا وكمال شقيق الأبنودي وأمي، نمت نحو الحادية عشرة حتى الصباح".
 
*أنا والناس
بعض معارضيه أغمضوا أعينهم عن قصائده، واتهموه بالنرجسية وحب الذات، وأنه لا يحب من الشعراء سوى نفسه، فيسخر من أصحاب المواهب المبتورة– على حد وصفه– ويطلق على نفسه اسم "عبد الرحمن الأحقودي"، ليلتقط منافسوه مصطلحه الخاص، وينشرونه كأنهم من أطلقوه، وكعادته يغضب لحد فقدان العقل، ويشعر أن نكتته سرقت، خاصة أن كلامه عن زملائه كان يؤكد أنه لا أحد يصبح شاعرًا كبيرًا على أنقاض شاعر كبير.
لا أعتقد أنه يجب أن أجعل الأخرين أقزامًا لكي أتعملق أنا – عبد الرحمن الأبنودي، صحيفة الوفد 1991
مارس 2008، يجلس عبد الرحمن الأبنودي في غرفته بالمستشفى الأمريكي في باريس، يتلقى علاج الرئة والعمود الفقري، يكتب قصيدة جديدة لمصر، وفي داخله لا يشعر بالحنين للوطن، لأنه على حد قوله: الوطن حاضرًا في زيارات الأصدقاء من فرنسا، والسويد، وسويسرا، واتصالات هيكل، وأسامة أنور عكاشة، وصلاح السعدني، ومحمود درويش، فضلًا عن شهرته كـ فاكهاني التي طغت على شعره، وذلك نتيجة كميات الفاكهة الكبيرة التي أحضرتها الجالية المصرية في باريس.
في بيت الإسماعيلية، مع نهال كمال وابنتيه نور وآية، يكتب عبد الرحمن الأبنودي بغزارة في أصعب الأوقات التي تمر بها مصر، مخاض ثوري يحتاج إلى كلماته، يكتب "لسه النظام ما سقطش"، وتنشر جريدة التحرير مربعاته التي عبرت عن المصريين، وصوت علي الحجار يصف "ضحكة المساجين"، ومع محمد منير يبحثان عن جدع بلا جاه مرسى الهموم قلبه، وفي 21 أبريل 2015، يجد الأبنودي المرسى المنشود، ومع ذلك لم يغب بأشعاره، لأنه وفقًا لكلماته: "يا تراب بلدنا يا غالي يلا ضم.. ضم جسد إنما صاحبه هيفضل حي".