التوقيت الأربعاء، 17 أبريل 2024
التوقيت 01:16 ص , بتوقيت القاهرة

رشا تروى حكايتها مع الحب والعذاب والثعابين فى مزارع للشرقية

رشا
رشا

أمام مرآة صغيرة ترسم شفتيها بالأحمر، دقائق تنسى فيها كل شيء مع حركات القلم الذى يغير لونه ملامحها بالكامل، تلمح فى انعكاس الزجاج فستانا أنيقا وهميا داخل دولابها الخشبى سترتديه بعد يوم عمل طويل، يوم عمل رسمته فى خيالها كـ"باشمهندسة قد الدنيا"، تنظر لنفسها وتبتسم قبل أن تسقط على جذور أحلامها إلى أرض الواقع والعادات والتقاليد، تمسح كل شيء وتسحب جلباب الشقاء الذى لا تمكنها ظروف عملها وأوامر الأهل سوى من ارتدائه، تلقى بكلمات مثل الحب والبهجة إلى جوار قلم الروج والمرآة لتبدأ مثل غيرها من فتيات الترحال رحلة حياة لا تعرف سوى القسوة والمعاناة والألم.

هنا في الظهير الصحراوي لمدينة السادات التابع لمحافظة البحيرة، تعيش "رشا إبراهيم" صاحبة العشرين عامًا، ضمن مئات مثلها يعملن فى المزارع من أجل بضعة جنيهات، مهنة ورثتها من والديها اللذان كانا يعملان في محافظة الشرقية، وبعد انفصالهما انتقلت "رشا" مع والدها وإخوتها إلى الظهير الصحراوي، لتبدأ حياة جديدة مع فتيات العمالة الزراعية.

 

صوت أذان الفجر هو المنبه اليومى الذى تستيقظ على صوته "رشا" لتبدأ يومًا جديدًا من حياتها، تتحايل على النعاس بكوب من الشاي الساخن تتناوله وتخرج من بيتها؛ تتمتم بصوت خافت ببعض الأدعية الصباحية، تسير بين الطرقات حتى تصل إلى المكان المتفق عليه مع مقاول الأنفار؛ لتستقل صندوق سيارته الــ"ربع نقل" مع زملائها ليصل بهم إلى المزرعة المراد العمل فيها.

 

ساعة ونصف من الرعب والأحلام الضائعة تتحملها الفتاة حتى تصل بأمان إلى مكان عملها، فى هذا الصندوق الذى يحمل ما بين 25 إلى 30 عاملًا زراعيًا، يتبادلون أماكنهم في كل مطب صناعي بغير إرادتهم من شدة اهتزاز السيارة بفعل السرعة لكي يكونوا داخل المزرعة في الموعد المحدد لهم، كل يوم يحمل حادث جديد، فى مرة تكون لمسات تحرش ومضايقات ربما تجلعها لا تعود للعمل فى مرة أخرى، أو سقوط أحد الزملاء لينتهى اليوم بإصابة وأحيانا بـ"الموت".

 

وتقول البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن هناك 11.098 ألف حادث على الطرق عام 2017، أغلبهم سيارات محملة بالعمالة الزراعية بسبب السرعة الزائدة التي تؤدى في أغلب الأحيان إلى انفجار إطارات هذه العربات، ثم تقع الكارثة، بالإضافة إلى تزايد نسبة عمالة الأطفال في الريف المصري عن  85% .

               

مثلها مثل المئات من زميلاتها المتناثرات فى حقل الباذنجان الواسع الذى اصطحبتنا له تعمل رشا تحت الشمس الحارقة مختبئة وسط الزراعة من شدة الحر منحنية الظهر لفترات طويلة، تقطع الثمار بيدها الخشنة من كثرة الأشواك وتضعها في الجوال حتى يمتلئ، فتحمله على كتفها وتخرج به لتسلمه لزميل آخر، وفى أوقات كثيرة تظل واقفة على قدميها ساعات طويلة فتصاب بضربة شمس، أو بنوبة برد فى الشتاء، لا فرق بينهما هنا شمس حارقة وهناك صقيع لا يرحم.

 

 تقول رشا: مخاطر عديدة نتعرض لها تصل لخطر فقد الحياة، فكثير من الأحيان يتعرض زملاؤنا للدغات الثعابين، وغبار الأسمدة وغاز المبيدات الزراعية الذي يسبب لنا حالات تسمم، واختناق، وصداع، وقئ وإسهال، لعدم تواجد عوامل الأمان وسبل الحماية، وقد يصل الأمر بنا إلى ترك صاحب العمل المبيد الزراعي بجانب مياه الشرب فنتناوله بالخطأ فتقع الكارثة، وهذا ما يحدث بالفعل مع أطفال كثيرين يعملون معنا بالعمالة الزراعية، وكما تصف الفتاة حياتها قائلة "أكل العيش مر وكأس العذاب كل يوم نشرب منه".

 

"التحرش" هنا واقع محتمل بقوة، حرمت "رشا" من حقوقها كفتاة لها خصوصيتها أثناء عملها، فأبسطها لا يوجد مكان تبدل الفتاة فيه ملابسها أو دورة مياه تقضى فيها حاجتها، حيث تظل الفتيات يتعذبن إلى أن تمر السيارة على مسجد أثناء العودة من المزرعة فتزلن الفتيات لتغتسلن وتبدلن ملابسهن وعن تلك اللحظات تحكى "بحس بإهانة عشان لو معايا مكنتش تعرضت لكده ولا كنت اضطريت اشتغل شغلانة زى ديه" هكذا وصفت رشا حالها.

 

في نهاية يوم عمل شاق تجلس "رشا" على سريرها وهو عبارة عن عدد من الأقفاص تضع عليهم بطانية ولحاف قديم، بعد أن نظفت غرفتها بـ"المقشة البلح" ورشتها بالماء ليسكن التراب، وفتحت شباكها وأمسكت بمرايا لدراجة بخارية "موتوسكل" تحاول أن ترى وجهها وتحلم أنها ترتدي فستانًا وتترك شعرها في الهواء، وشفتيها ملونة باللون الأحمر، ولكنها تستيقظ على صوتها وهى تقول" اصحي ما تحلميش لاعاداتنا ولا تقاليدنا تسمحلنا" هكذا ستظل الفتاة  حبيسة داخل العباءة والطرحة سواء في البيت أو خارجه.

 

رغم حياتها الشاقة ويدها الخشنة إلا أن لـ"رشا" قلب صغير يدق ويحب ويحلم بالرجل الصادق الذي سيحميها ويحتويها ويعوضها بحنانه عن قسوة الأيام لها، وكما تقول"سعادتي في راحة البال".

 

هالة عبد القادر مدير المؤسسة المصرية لتنمية الأسرة قالت: أن هذه الفئة من الفتيات تعلمن عمل شاق للغاية ينتهك فيه حقوقها كإنسانة، وتتعرض لضغوط نفسية وصحية وجسدية خطيرة، فلا يوجد لها حماية قانونية على الإطلاق.

وأضافت أنه في القانون أن باب تشغيل النساء لا يوجد فيه هذه الفئة من العمالة النسائية، حيث لا ينطبق على العمالة غير الرسمية ومنها العمالة الزراعية "فتيات التراحيل" والعمالة فى المنازل.

 

وناشدت بوضع قوانين تنظم العمالة الخاصة في مصر، بداية من البواب مرورًا بالخدمة في المنازل وعمال التراحيل بفئاتها المختلفة، فتيات التراحيل التى ينتهك حقوقها كل يوم، فمثلما وضعت الحكومة قانون خاص للحماية المدنية يجب أن تضع قانون يحمى هذه الفئة المهمشه، نحن نحتاج حماية للعاملين فى القطاع الخاص .

 

وأكد على ذلك البرلماني محمد تمراز عضو لجنة الزراعة بمجلس النواب حيث قال: ليس هناك شك أن العمالة الخاصة مهضوم حقها وخاصة العمالة الزراعية، فهم يعملون بـ"الوجبة "، ورغم أنهم مشمولين بقانون التأمين الصحي الجديد إلا أنه سيطبق بعد فترة، هذه الفئة تتعرض لأمراض خطيرة ومزمنة يصعب علاجها.

وتابع: فتيات العمالة يتم استغلالهن أكثر من الشباب فهن ينجزنا عملهن بكل دقة وسرعة نظير مبلغ مالي ضعيف، ويؤسفنى أنه لا يوجد قانون يحميهن من الضياع فالفقر والعوزة رفعت نسبة الانتحار بين هذه الفئة المكلوبة من شدة ضيق الحال .

 

تمثل المرأة الريفية 49% من نسبة سكان الريف  في مصر، و42,8% من النساء اللاتي يعملن في المجال الزراعي، وتعد نسبة الأمية بين المرأة الريفية 86%، أشار لذلك الدكتور شريف الصاوي مدير عام إدارة البحوث بالمجلس القومي للمرأة، حيث أكد أن المرأة الريفية هي الأكثر احتياجا وتهميشا ومعاناة على الرغم من أنها أكثر الفئات إنتاجا في مجتمعنا المصري.