التوقيت الجمعة، 26 أبريل 2024
التوقيت 04:30 ص , بتوقيت القاهرة

"هيراقليطس".. صوت ضد السكون (1-2)

هل الوجود ثابت أم متغير؟، هل العالم تحكمه الوحدة أم الكثرة؟، ما أصل الأشياء جميعها؟، ما هو القانون الذي يحكم العالم؟، وأخيرا كيف نحقق السعادة؟. من منا لم يسأل نفسه كل تلك الأسئلة؟!، ومن منا لم يبحث عن إجابات لها مرة بالتأمل وأخرى بالبحث؟،  ولكن من منا يعرف عن "هيراقليطس" شيء؟!.


 ذلك "العقل"، الذي خرج من إحدى المستعمرات اليونانية بآسيا الصغرى، شديد الاعتداد بنفسه، مفعم بالشعور بالعظمة والكبرياء، كثير الاحتقار لغيره، كأنه من طينة غير طينة البشر، فكر وأجاب عن أسئلتنا جميعها، قبل وجودنا بآلاف السنين، فكان أول من رمى حجر في بحيرة التصورات الراكدة  للعالم، ومن يومها وبحيرة تصوراتنا عن العالم لم تعد كما كانت، فأنت كما يقول هو  "لا تنزل نفس النهر مرتين".



وصفه هيجل بـ"الفيلسوف النظري الأول"، ووصفه معاصرو هيجل بـ"هيجل اليونان القديمة"، أما مواطنو اليونان نفسها فأطلقوا عليه مرة "الفيلسوف الباكي"، وأخرى "الفيلسوف الغامض"، فيقول سقراط عن كتاباته: "إن ما فهمه منها شيء عظيم وما لم يفهمه شيء عظيم بالمثل".   


لا شيء يبقى على حاله


ربما تعكس حياة هيراقليطس صورة حقيقية عن فلسفته في التغير، فقد ولد في القرن الخامس قبل الميلاد بمدينة إفيسوس، وهي إحدى مستعمرات اليونان بآسيا الصغرى، وكان ينتمى لأسرة ملكية عريقة، وشغل منصب الكاهن الأعظم في معبد "أرتيمس"، ربة الخصب والأمومة.


تميز بالنزعة الارستقراطية، والاعتداد بالنفس، واحتقاره لمعتقدات العامة، وازدراءه لعظماء أمته،  فقد روى عنه أنّه بينما كان ذات يوم منهمكا في اللّعب مع أحداث، أحاط به أعيان مدينته مستغربين فعله، فما كان جواب هرقليطس لهم إلاّ أن قال: "إليكم عنّي أيّها السّفهاء، إن مخالطة الأحداث واللّعب معهم لأحكم للمرء من سياستكم".



ربما كانت سماته الشخصية، وانتشار الجهل بين مواطني مدينته، ومعاصرته ظروف اجتماعية وسياسية متقلبة ـ حيث تقهقر الحكم الارستقراطي لصالح الديمقراطي ـ سببا في دفعه لترك منصبه الديني، وتخليه عن حقوقه الوراثية في أسرته، وتفضيله العزلة عن الناس معتصما بجبل على أطراف المدينة، زاهدا في كل شيء يتنقل في البراري، ويعيش على الكفاف، وكلما خالط الناس لم يكلمهم إلا بالألغاز.


العزلة طريق الفلسفة


مارس هيراقليطس في عزلته نوعا من التقشف، الذي يرى أن القوة تتمثل في السيطرة على رغبات الجسد، ومحاربة أهوائه، وشبّه الإنسان المنصاع لرغبات جسده "برجل مخمور وضع زمام أمره في يد غلام يظل يثب به، ولا يدري أين يضع قدماه"، ليصل إلى نتيجة أنه ليس من الخير للناس أن يحصلوا على كل ما يريدون.



نزع هيراقليطس نحو العزلة، احتماء بها من خرافات معاصريه الدينية، ونزوعهم نحو التفكير الأسطوري، ويؤكد على ذلك بقوله: "إنهم يعبدون تماثيل الآلهة كما لو كانوا يتحدثون إلى بيوتهم، وهم لا يعرفون ما الآلهة أو الأبطال".


ونراه يحمل على ممارستهم للشعائر الدينية فيقول: "إنهم يطهرون أنفسهم عبثا حين يدنسون أنفسهم بالدماء، فهم في ذلك أشبه بمن يخوص في الطين، ليغسل قدماه من الطين، فكل من رآه يصنع هذا لابد أن يحكم عليه بالجنون".


وبصفة عامة، فقد وقف هيراقليطس موقفا عدائيا إزاء العقائد الدينية في عصره، لكن عداءه لم يكن موجها إلى الدين في حد ذاته، لذلك فقد رأى أن مهمة الإصلاح الديني تقع على عاتقه، وحدد طريقه لذلك بالثورة على القيم الدينية السائدة في عصره، ووضع فلسفة جديدة قائمة على العقل، وأراد أن تحل محل معتقدات معاصرية الأسطورية، فكانت فلسفته في التغير هي الحل.


العالم بين الثبات والتغير


 كان الفلاسفة حتى عصر هيراقليطس ينشدون الثبات في هذا الوجود، لكنه اعتبر ذلك وهمًا، لأنه لا شيء من ذلك موجود،  ولا ينبغي لأحد أن يرغب في وجود عالم راكد، فحيثما تكون هناك حياة فإنها تحيا على تدمير شيء آخر، فالنار تحيا بموت الهواء والهواء يحيا بموت النار؛ والماء يحيا بموت الأرض، والأرض تحيا بموت الماء.



رأى هيراقليطس الوجود  في حالة تغير وسيلان، لا في حالة ركود واستقرار، فكل ما تحت الشمس في حالة تغير دائم، ويتحول إلى أشكال جديدة، وقوالب جديدة، فلا شيء يبقى ولا شيء يظل كما هو، ويؤكد ذلك بقوله: "ما من إنسان ينزل في النهر الواحد مرتين، فهو دائم التدفق والجريان".


الصراع قانون التغير


يرتبط مفهوم "التغير" عند هيراقليطس بمفهوم "التضاد"، فتغير الموجودات يعني تحول أو تغير الشيء إلى ضده أو نقيضه، ويدلل على ذلك بقول: "الواحد يتكون من جميع الأشياء، وتخرج جميع الأشياء من الواحد"، "الخالدون فانون، والفانون خالدون، وأحدهما يعيش بموت الآخر"، "الإله هو النهار والليل، الشتاء والصيف، الحرب والسلم، الشبع والجوع، ولكنه يتخذ أشكالاً مختلفة كالنار، التي امتزجت بالتوابل سماها كل شخص حسب طعمها".



أكد هيراقليطس على أن الصراع أو الحرب بين الموجودات هي أساس الوجود؛ ففي الصراع حياة الموجودات وموتها، ولكن هذا الصراع أو الكفاح ـ كما يرى هيراقليطس ـ غير قائم على الظلم، بل قائم على العدل، لأنه لا ينتهي بنصر كامل وتام لأحد الأضداد على حساب الآخر.