التوقيت الأحد، 05 مايو 2024
التوقيت 04:47 م , بتوقيت القاهرة

"داليدا" الوجة الأخر لـ “بنت شبرا"

داليدا
داليدا

حينما نقف أمام فيلم وثائقي ونستخرج منه ملامح السينما الروائية فتلك ميزة تحسب للفيلم وصناعة خاصة إذا أجادوا استخدامها، ولكن حينما تنقلب الآية، ونبدأ نستخرج سمات وملامح السينما الوثائقية من فيلم روائي، فإن صناع الفيلم هنا في مأزق أو لم يحالفهم التوفيق في فيلمهم، داليدا " Dalida" الفيلم الذي كتبته وأخرجته ليزا أزويلوس، وقع في العديد من المشكلات.


البداية علاقة المصريين بداليدا علاقة مركبة للغاية، مطربة من أصول إيطالية ولدت في مصر وغنت بالفرنسية واشتهرت في فرنسا بل أصبحت النجمة الأكثر شعبية في فرنسا، في مصر يعتبرونها فرنسية وفي إيطاليا هي إيطالية وبالقطع فرنسية، داليدا تلك السيدة التي حملت بداخلها حضارة حوض البحر المتوسط بكل شغفها وحزنها وتنوعها كانت بالطبع تستحق فيلم عن سيرتها ولكن كيف؟


مغامرة ليزا مع داليدا، بدأت من اختيار الزاوية التي أرادت تناول داليدا منها، بالطبع انا في حل من الحديث عن الفرق بين فيلم وثائقي عن أحد المشاهير، والحديث عن فيلم روائي يستند على سيرة أحد المشاهير، الفرق شاسع بين الإثنين، ولكن ليزا بشكل أو بأخر ذوبت تلك الفوارق بين الجنسين السينمائيين وهذا الذوبان كان ضد فيلم داليدا وليس في صالحة.


داليدا


في البداية نرى ليزا تستخدم تكنيك الإنترفيو أو المقابلة من شخصيات مختلفة تروي علاقتها بداليدا، وتستخدمه من خلال خط الطبيب النفسي، هذا الملمح المنتمي قلبا وقالبا للسينما الوثائقية، كان ممكن ان يكون مفيدا للفيلم ولطريقة سرده، مستخدما تكنيكيات أكثر حرفيه مثل مشهد عرض الزواج ورد داليدا عليه، وهو للأسف التكنيك الذي تخلت عنه ليزا سريعا ليقع الفيلم في الفخ الأول حيث اعتمادها الأساسي على الفلاش باك، دون القدرة على توظيف أماكنه توظيفا صحيحا.


في السينما هناك تكنيك في الكتابة لم يتم استخدامه بشكل كبير، إلا في محاولات قليلة للغاية وبحذر شديد لأنه كفيل بأن يضع المتلقي في حيرة وتساؤل غير منطقي وغير طبيعي بل ومن الممكن أن يقتل الفيلم تماما إذا تم استخدامه بشكل غير مناسب، وهو تكتيك "flash forward" حيث يتيح للمتلقي ان يرى احداث لم تحدث بعد، كنوع من أنواع الاستشراف او التنبؤ.


ليزا انتقلت من الفلاش باك او الاسترجاع إلى الفلاش فورود او التنبؤ، في مشاهدها، صحيح ان مشاهد التنبؤ، جاءت قليلة ولكنها جاءت كمحاولة منها كمؤلفة للفيلم، لاستعراض عضلات لا مبرر ولا طائل من ورائها، إلا إثاره أسئلة معروف اجابتها سلفا، ليس فقط من معرفتك بالشخصية التي يدور حولها الفيلم، ولكن لأن ليزا اجابت على تلك الأسئلة سابقا في الفيلم، فلماذا التنبؤ إذا.


داليدا


ليس هذا هو التساؤل الوحيد، فكأنما صناع الفيلم يتذكرون فجأة أنهم بصدد فيلم روائي فيتخلون عن الوثائقية التي يتبعونها طيلة الفيلم، ويقومون بوضع مشهد او اثنين روائي، ليصبح الفيلم في رأيي جنسا سينمائيا لا اعرفه ولم اشاهده من قبل فلا هو وثائقي أو روائي أو حتى "دراما وثائقية"، الفيلم بسبب استخدام الفلاش باك غير المنضبط وطريقة تناول الاحداث وسردها بصريا كان أشبه في فيلم وثائقي طويل، يحاول صناعه لي ذراعه دائما ليصبح روائي.


داليدا شخصية صاحبة حياة مأساوية تجاوزت الخمسين عاما، ولكن لماذا طيلة الفيلم الصورة مقبضة وخانقة وتبعث على الاكتئاب، اختيار المخرجة ليزا ازويلوس، لذلك الكادر القريب للغاية دائما من الشخصيات، كان اختيار شديد الخطورة، كان مغامرة بصرية محفوفة بالمخاطر.


ليزا تحاول ان تنقل لنا الحالة النفسية للشخصية، اتفق تماما أن الإخراج بالأساس هو نقل وتصوير الحالة النفسية والفكرية والعاطفية للشخصية، ولكن ليس هكذا ليس منطقي أنه حتى في أشد لحظات داليدا فرحا في الفيلم الكادرات خانقة وكئيبة، ليس فقط باختيار "cadre close up" ولكنى حتى الإضاءة وزوايا التصوير كانت تتعمد ان تجعلها خانقة.


داليدا


داليدا انتحرت أي نعم، لم تكن حياتها بالكامل أفراح وسعادة، بل كان شبح الموت يحيط بها دائما، ولكن رفقا بها فلم تكن حياتها المعروضة امامي في الفيلم بكل تلك السوداوية التي رأيناها، فليزا جعلت داليدا، تختار وترفض وتتحيز وتعارض وتواجه وتنتصر وتنكسر، كان لابد ان نرى هذا بصريا أيضا، لان ان يكون المتصدر الدائم للصورة هو حالة الانكسار.


على جانب اخر جاء اختيار ليزا لأغاني داليدا وتوظيفها في الفيلم موفقا لأقصى درجة، فلا تأتي تلك الاختيارات وتوظيفها إلا من شخص " ذاكر" داليدا واغانيها طويلا وحفظها وعرف كيف يستخدمها ويوظفها لتناسب الحالة الموجودة في كل مشهد من مشاهد الفيلم، بل واستخدمت الأغاني أيضا لبيان تطور الحالة النفسية للشخصية.


بينما كان السيناريو والإخراج هما من حملا كل زلات ومغامرات الفيلم، كان التمثيل في موقع أخر، التمثيل وخاصة الممثلة "سيفيفا أليفيتي" والتي قدمت دور داليدا، كانت بالفعل داليدا، تتحرك كما تتحرك ترتدي ما ترتديه تفكر وتبكي كما تفكر وتبكي "دالي"، سيفيفا تفوقت بحق في دورها، وينافسها في هذا التفوق " جان بول روف" الذي قدم دور لوسيان موريس، وريكاردو سكاماركاو والذي قدم دور "برونو" شقيق داليدا.


داليدا


في النهاية، رغم كل الزلات التي وقع فيها السيناريو والإخراج، فإن تقديم فيلم طويل، عن حياة واحدة من أكثر المطربات إثارة للجدل في العالم، هي مغامرة تستحق الثناء الشديد، خاصة في ظل حرص صناع العمل على تقديم حياة داليدا من وجه نظرهم بمنتهى الإتقان، وربما كان المغالة في ذلك الإتقان هو السبب في زلات الفيلم، الذي عرض لنا الوجه الأخر لداليدا " بنت شبرا".