التوقيت السبت، 27 أبريل 2024
التوقيت 03:09 م , بتوقيت القاهرة

مرت سنة

عزيزي ..


كنت قد وعدتك يومًا أن أقص عليك القصة كاملة. لم يخطر ببالي يوم وعدتك أنني أعد بما لا أستطيع الوفاء به. فالقصة الكاملة ملك الذاكرة، والذاكرة كائن معقد يجيد التحايل. يخلط أحيانًا الواقع بالخيال ويسجل الاستنتاجات العابرة على أنها حقائق دامغة. الذاكرة تطمس من التفاصيل ما قد تظنه مسببًا للألم كما تستدعي الألم المطموس في ذروة لحظات السعادة.


نحتال على تحايل الذاكرة بالتوثيق. نوثق الأحداث الهامة، أو التافهة فتكتسب بتسجيلها أهمية. نسجل بالصوت والصورة والكلمة المكتوبة الأدلة على أن ما نمر به حقيقي لا يشوبه شائبة حلم أو خيال.


تنقذنا الأدلة أحيانًا ولكن النسيان كالرمال المتحركة كلما قاومته زاد فتكه. أحاول منذ فترة أن أتذكر صوت أمي، أو حتى أن أتذكر متى توقفت عن الحديث معي. ماتت أمي منذ ما يزيد على العشرين سنة، ولكن الحوار بيننا ظل موصولًا حتى انقطع فجأة في يوم لا أذكره انشغلت فيه عن الحوار بمحاولة سماع صوتها. ومن يومهما لا أستطيع لا تذكر صوتها ولا مواصلة الحديث.


يخيفني تحايل الذاكرة التي طمست صوت أمي ولم تطمس فقدي لها. يخيفني احتمال أن تطمس الذاكرة نصائحه. يخيفني احتمال ألا يبقى لي منه سوى ألم فقدي له.


كنت قبل لقائه محبوسة في نفق مظلم تحاوطني فيه الهزيمة من كل جانب. حتى أن صديقًا قد وجد في وصفي ب "خبرة في الإحباط" مدحًا. حاولت المرة بعد المرة إضاءة الشموع في مواجهة الظلام ولكن مخزوني من الشموع والكبريت والمحاولات نفد. قررت في لحظة ضعف، أو ربما قوة، أن أستسلم للظلام.


وما إن استسلمت حتى قال الله ليكن نورا.. فكان نور أستاذي عبدالله كمال.


يتندرون دومًا حول النور في نهاية النفق المظلم. يقولون بأن النور دومًا لقطار مسرع يسعى لتخليصك من عذاب ظلام الحياة المؤقت بظلام الموت الدائم. لكن نوري كان يدًا ممدودة بالفرصة بعد الفرصة والنصح بعد النصح والتشجيع بعد التشجيع. كان نوري مرشدًا ومعلمًا وموجهًا لطالما دعوت الله أن يمدني بمثله.


النور لا يموت، لم يأخذ الموت مني دروس أستاذي ولكنه حرمني الاستزادة. تركني موته فريسة لرمال النسيان المتحركة. لم أستعد لفكرة موته بالتوثيق. ليس لدي صورة واحدة تسجل أي لقاء، فقط مراسلات العمل وبعض الوريقات التي كتبها بملاحظاته، وتوقيعه على كتاب حرره أصررت يومها أن يكون "توقيع خاص" وليس "لقارئ عابر سبيل". كتبها كما طلبتها وذيل التوقيع بابتسامة تذكرني في كل مرة أفتقده فأتفقد توقيعه بابتسامته يومها. لا يبدو هذا اليوم بعيدًا ولكنني أخشى اليوم التي تُسقط فيه ذاكرتي صورة تلك الابتسامة كما أسقطت صوت أمي.


عزيزي، مرت سنة. أفتقده بشدة كما لو كان رحل منذ مئة سنة. وأشعر بوطئة فقده كما لو كان رحل بالأمس.