التوقيت الأربعاء، 24 أبريل 2024
التوقيت 03:39 م , بتوقيت القاهرة

يعني أكتب إيه؟!

كانت تكتب ثم تقطع الكارت وترميه في سلة المهملات، ثم تسحب كارتا جديدا وتبدأ في الكتابة.. وبعد قليل تنظر لما كتبت بضيق شديد وتقطعه مرة أخرى لتأخذ غيره.. وفي كل مرة كانت تبدو أكثر عصبية من المرة التي تسبقها.. ولما كنا في المطار وعادة ما يميل المسافرون إلى تقديم المساعدة وبخاصة إذا بدا أن الآخر يحمل غالبا جنسيتك نفسها، اقتربت منها قليلا وأدركت ملامحها المصرية ووجدتها تحاول ملء الكروت الخاصة بالسفر وأسبابه وجهة الوصول.. إلى آخر ذلك من أوراق السفر.


كلمتها بالعربية المصرية بثقة: صباح الخير.. وكأن غريقا تعلق بقشة.. بسرعة شديدة قالت: كويس إني لقيت حد مصري ممكن تساعديني في اللي أنا فيه ده؟.. كنت متأكدة أنها في وقت آخر كانت ستقول لي صباح النور وتجاملني بكلام مصري ومحاولة تعرّف لطيفة لأنها كانت تبدو سيدة لطيفة.. ولكنّها نسيت كل عبارات الذوق بسبب تلك المأساة – كما أسمتها فيما بعد – وهي ملء الكروت اللعينة.. كانت في غاية العصبية بسبب تأخرها الشديد وكانت تتكلم وتكتب في وقت واحد.. تسأل السؤال نفسه قبل كل كلمة تكتبها: يعني أكتب إيه؟ وتحكي أن لديها مشكلتان:


الأولى أنها لا تجيد السير في المطارات واتباع الممرات الصحيحة التي تقودها إلى البوابة المراد الوصول لها.. ولذلك لا تحبذ مترو الأنفاق في مصر أبدا.


والثانية أنها تكره ملء الاستمارات واختيار البيانات الصحيحة وتفشل في كتابة الحروف – الإنجليزية – في خانات مستقلة، والأرقام بطريقة صفر على يسار رقم الآحاد إذا كانت تكتب تاريخ الميلاد.. إلخ.


لماذا تمثل عملية ملء أي استمارة مشكلة للمصريين؟ لماذا يبحث- حتى المتعلمون- عن مكتب أو شخص يقوم بملء البيانات بدلا منهم؟ ولماذا يخطؤون في كتابة بياناتهم الشخصية لا عن جهل بل لأنهم لا يعرفون بالضبط كيفية الكتابة في استمارة أو كارت؟! ولماذا يرهبون هذه العملية غير المعقدة؟ وهل يعجز ذكاء الإنسان المصري أمام تلك الوريقات البسيطة؟


الحقيقة الصادمة هي أننا لا نعلّم أولادنا لا في المدارس ولا في البيت كيف يقومون بملء استمارة أو كتابة بياناتهم الشخصية.. نقوم بحشو أدمغتهم بحفظ معلومات تنأى عن حملها الأقراص الكمبيوترية المضغوطة.. ولا نعلمهم كيف يملأون استمارة بطاقة استخراج الهوية!! نقوم بتدريس الطفل تاريخا طويلا بعصور مختلفة وهذا جيد ومطلوب ولكننا نعجز عن منحه إمكانية النظر إلى الحياة الراهنة ومعرفة كيفية التعامل مع العالم الحاضر.. في اللغة العربية نطلب منه أن يكتب مقالا عن المجتمع أو عن ظواهر وطنية ولا نعلمه كيف يكتب عن نفسه!!!!


كم مرة في حياتك المدرسية طلب منك أستاذك أن تكتب مذكراتك الشخصية عما حدث لك يوما بيوم لمدة أسبوع؟ كم مرة كان الواجب المدرسي هو كتابة موضوع بعنوان: من أنا؟ هل كان عليك في أي مرحلة من المراحل التعليمية دراسة كيف تقوم بملء استبيان أو استمارة بنكية أو تصميم بطاقات تعارف لزملائك مثلا؟ إذا كان قد حدث معك أيا مما سبق فأنت محظوظ.


لم تكن المسافرة المصرية غالبا من هؤلاء المحظوظين، إذ إنني بعدما ساعدتها في إنهاء ملء الكروت اعتذرت وشكرتني مسرعة لتلحق بطائرتها، وجرت مبتعدة ثم عادت سريعا لتسألني: هي بوابة رقم 11 تبقى منين؟ حاولت أن أجعلها تنظر للأعلى لتفهم اللوحات التي سترشدها بسهولة للبوابة فلم تنظر وسألت: يعني أمشي منين؟ قلت لها: من هنا.. اختفت سريعا عن عيني ولكن صورتها العاجزة لم تمح من ذاكرتي.. ولن أنسى مشكلتيها لأن كثيرا من المصريين يعانون منهما أيضا.. ولي حديث آخر عن معرفة الطرق وقراءة اللافتات.