التوقيت الثلاثاء، 07 مايو 2024
التوقيت 11:41 ص , بتوقيت القاهرة

زرياب.. التلميذ الذي غار منه معلمه

هناك الكثير من الأعلام العربية والإسلامية ممن ساهموا في إثراء الوجه الحضاري العالمي، باقتراحاتهم وجهودهم المبدعة، ومن بين هؤلاء المغني زرياب، الذي دخل ذاكرة الموسيقى العربية بعبقرية فنية وحكاية حياة امتزج فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالأسطورة.


البدايات


أبوالحسن علي بن نافع، الموسيقي والمغني عذب الصوت داكن البشرة، وصل الأندلس ليخط هناك تجربة موسيقية متفردة بعد رحلة طويلة وشاقة من بغداد -عاصمة الخلافة الإسلامية وقتها-  مارّا بالقيروان التي قضى في بلاطها فترة قصيرة، قبل أن يدعيه الحكم الربضي إلى الأندلس، في محاولة منه لخلق قطب منافس للموصلي في المشرق الإسلامي.


تلقّى تعليمه في مدرسة إسحق الموصلي الفنية ببغداد، وظهر نبوغه المبكر ليصبح أشهر تلاميذه وتشيع أخباره في الأنحاء، الأمر الذي مكّنه من الاتصال بهارون الرشيد في أواخر حكمه، أدهش زرياب الرشيد، ورفض العزف بغير عوده الذي ابتكره وطبّق به قواعد موسيقاه الخاصة، وكان أخفّ بثلاث مرات من عود أستاذه، وتميز بحباله الحريرية الأكثر ليونة.


لكنه رحل عن بغداد لأسباب كثيرة، ربما أهمها هو سوء الأحوال الاقتصادية للمدينة بعد موت هارون الرشيد والفتنة التي خلّفها رحيله، وخوفه على حياته من غدر الخليفة المأمون لأنه كان من أنصار أخيه الأمين، كما داعبت خياله أحلام المجد والشهرة في الأندلس، هناك على الجانب الآخر من المملكة الإسلامية حيث تسير الحياة في دعة واستقرار، ويبقى سبب أخير بتلك الهجرة الطارئة، وهو الخلاف الذي نشب بين زرياب وأستاذه الموصلي، لغيرة الأستاذ من تلميذه.


الطريق إلى الأندلس لم تكن سهلة أيضا، فقد علم زرياب بنبأ وفاة الحكم الربضي، وقرر أن يعود غير أن رسول الحكم الربضي نهاه عن ذلك، وأرسل للأمير عبدالرحمن بن الحكم يعلمه بمقدمه، فأحسن استقباله وأكرم وفادته، هكذا وصل على قرطبة التي احتضنته قصورها، فطرب وأطرب بين جدرانها وحدائقها الجميلة.



أثره في الحياة الاجتماعية


ساعدت ثقافة زرياب الموسوعية وتوزّع انتماءاته بين الفارسية والإفريقية والكردية وانتقاله من المشرق إلى الأندلس، في فرض نفسه على المجتمع الأندلسي وتفجير طاقاته الإبداعية والتأثير في المجتمع الذي كان جزءا منه، ففي مجال الطعام وآدابه وضع للطبقات الأندلسية الراقية قواعد للسلوك وآداب المحادثة والجلوس والطعام حتى سمّوه "معلم الناس المروءة".


كما أخذوا عنه فكرة اختيار أغطية المائدة من الجلد الناعم بديلا عن الكتان، وعلّمهم كذلك فن التجميل والعناية بالبشرة وغزالة رائحة العرق، ووضع لهم نظاما لارتداء الملابس وفقا لفصول السنة وتقلبات الطقس، كما أدخل إليهم طرقا جديدة لقص الشعر وتصفيفه، ويذكر المقري أيضا "أن زرياب دخل الأندلس وأهلها، نساءً ورجالاً يرسلون جممهم مفروقة إلى وسط الجبين، عامة للصدغين والحاجبين، فلما رأى أهلها تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم وتدويرها إلى أذانهم، وإسدالها إلى أصداغهم، هوت إليه أفئدتهم واستحسنوه".


ونتيجة لكل ما سبق فقد استحدثت ظواهر وعادات اجتماعية في المجتمع الأندلسي الذي شاع فيه حب الترف والتأنق والاستمتاع بالحياة، والشغف بالموسيقى والغناء وكل ما هو سبب للبهجة، في عصر شهد تحسنا اقتصاديا وتساهلا مع صناعة الخمور والنبيذ، بالإضافة إلى الكثير والكثير من الجاريات المشرقيات والإسبانيات.



أثره في الحياة الفنية


يعد زرياب المغني أساس النهضة الغنائية الأندلسية، فقد أنشأ في قرطبة أول مدرسة لتعليم الموسيقى والغناء، كان أساس تلك المدرسة أبناء زرياب العشرة وجاريته متعة وتلميذته مصابيح، وكلّهم تعلّموا الغناء والموسيقى على يد زرياب.


وقد وفد على تلك المدرسة كثير من الطلاب العرب والأوروبيين الذين عادوا إلى بلادهم حاملين معهم من علوم الموسيقى العربية وفنونها ما أسهم في قيام النهضة الفنية في أوروبا، إذ يعد زرياب أول من أدخل "الموسيقى الدنيوية" إلى أوروبا، حيث اقتصرت الموسيقى قبله على الموسيقى الدينية التي يتم تأديتها في طقوس الكنيسة الكاثوليكية. وكان لا يقبل فيها إلا الطلبة الموهوبين، الذين تتوافر فيهم القابليات لهذا الفن، بعد امتحان يجريه لمن يريد الالتحاق بها.


واتبع منهجا خاصا في تعليم الموسيقى والغناء، بالاعتماد على مبادئ فلسفية يسهل على التلاميذ اقتباسها وتساعدهم في تليين أصواتهم وضبط حركات أفواههم، واستطاع أن يجعل للموسيقى الأندلسية طابعا متميزا وشخصية منفردة.



الوتر الخامس


بعد رحيله إلى الأندلس تابع تحسيناته على آلة العود، فتخلّص من المضراب الخشبي الذي يؤذي الأوتار ويتلفها، واستبدله بمضراب من ريش النسر الأكثر خفّة وملاسة وليونة، وأضاف إلى العود وترا خامسا، إذ كان العود قبل اختراع زرياب الوتر الخامس يتألف من 4 أوتار، والغرض من إضافة الوتر الخامس هو أداء النغمة الحادة التي لا يؤديها العود ذو الأربعة أوتار، وهذه المسألة شغلت بال المشتغلين بالفن والموسيقى قبل زرياب.


لم يتوقف تأثيره على الحياة الفنية في المغرب والأندلس بوفاته، بل استمر بعد ذلك بزمن طويل، حيث يذكر ابن خلدون في مقدمته "فأورث في الأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى زمان الطوائف، وطما منها بأشبيلية بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب".