التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 06:14 م , بتوقيت القاهرة

جرامشي لا يزال حاضرا

 


لا يزال المفكر الإيطالي الشّيوعي أنطونيو جرامشي (1891 ـ 1937) حاضرا بقوة في حقل الدراسات الثقافية والمعرفية، رغم من مرور نحو 80 عاما على رحيله.


حيث سجّلت أطروحاته عودتها في أعقاب سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتزايد النقاش بشأن العولمة وأخطارها.


وشكّل مزجه بين الالتزام السياسي والتحليل الثقافي عاملا قويا في إعطاء طروحاته الجاذبية والانتشار، وإن لم يختلف أحد على قيمته الفكرية والفلسفية فإنه من الجدير النظر إلى العوامل التي تضافرت لصنع الصورة الأيقونية له. 


ولد جرامشي في بلدة آليس بجزيرة ساردينيا الإيطالية عام 1891 وظلّ بها حتى أتمّ دراسته الثانوية في 1911، ليلتحق عقب ذلك بجامعة تورينو في الشمال، لكنه لم يتمكن من الالتزام بالتحصيل الجامعي قدر التزامه بالنضال السياسي والعمل الصحفي.


دخل جرامشي الشاب عالم الصحافة وتنقّل بين عدة صحف مثل "إل جريديو" و "أفانتي" جريدة موسوليني، و لورديني نوفو" وقد بدا واضحا منذ كتاباته الأولى تأثره بالفيلسوف الإيطالي بينيدتّو كروتشي، وفكرته عن "تغيير إيطاليا المرهون بتطوير الثقافة".


اعتقل للمرة الأولى في يوليو 1919 بسبب تأييده للجمهوريتين المجرية والروسية، وفي عام 1921 أسّس مع مجموعة من زملائه الحزب الشيوعي الإيطالي وانتخب نائبا له عام 1924 وترأس اللجنة التنفيذية للحزب.


وفي الثامن من نوفمبر، أودع السجن، بناء على أمر من موسوليني، حيث أمضى الـ 11 سنة الأخيرة من عمره، وفي السجن سيعلن قطيعته مع ستالين ويكتب سفره الأعظم والأشهر "دفاتر السجن".


 



دفاتر السجن


راكم جرامشي خلال مدة وجيزة تراثا نضاليا وتأمّلا فكريا قلّ نظيره، وما يدعو للتأمل هو المناخ السياسي والاجتماعي التي تم العمل في ظلّه،  فقد كانت أعوام سجنه الفترة الأكثر ازدهارا في مسيرته الفكرية، وجاءت كتاباته صرخة تحريضية للتحرّر من أسر الديكتاتورية، ومثّلت حياته في السجن تأكيدا صادقا لفكرة "المثقف العضوي الذي يتجاوز دوره حدود ذاته إلى الآخرين" التي دعا إليها، حيث يكتشف قاريء الرسائل حرص جرامشي على الاهتمام بالآخر وحثّه على أن يكون مُندمجا في الشأن العام وفي الوقت نفسه رافضا العنف.


أنجز ما مجموعه 32 دفترا، رافقته من معتقل إلى آخر، لم يضيّع المفكر الماركسي وقتا للتفكير في ظروف الاعتقال السيئة وحالته الصحية الدقيقة (لم يكن ينام أكثر من ساعتين في اليوم، وكان حارس الزنزانة يتكفّل بإذعاجه كلما سقط في إغفاءة قصيرة)، ولم يعوّل كثيرا على الدعوات العالمية لإطلاق سراحه، في ظل حكم السلطات الفاشية.


بدأ من زنزانته العمل على مشروعه الفكري الأهم، رغم غياب الوثائق وبالاعتماد على ذاكرته في تطوير أفكاره التى استقاها من ماركس وهيجل وميكافيللي، وهكذا تمكّن من إنجاز 3 آلاف صفحة بخط اليدّ،  عبّر خلالها عن تيمات وقضايا متنوعة تخص المثقف ودوره، وعصر النهضة، والإصلاح والتنوير، والمجتمع المدني، والفلكلور والأدب.


إلى جانب ذلك لم ينس كتابة الرسائل إلى أمه وعائلته وأصدقائه (صدرت ترجمتها العربية في العام الماضي  بترجمة سعيد بوكرامي تحت عنوان "رسائل السجن: رسائل أنطونيو غرامشي إلى أمه").


كان تدوين الدفاتر بالنسبة لجرامشي استكمالا للنضال الثوري، حيث اعتبرها "بؤرة حياته الداخلية"، وحين  صدرت بعد رحيله، وجد فيها المثقفون إلهاما قويا ومقاربات جديدة بعيدا عن النظرية الماركسية الجامدة.


 



ما تبقى


كانت لجرامشي جملة من الطروحات السياسية والثقافية مثل "الكتلة التاريخية" و"الهيمنة الثقافية" و"حرب الحركة" و"الثورة الناقصة" و"الثورة السلبية" وغيرها، وبمرور الزمن قلّ وهج السياسية منها، وباتت مهجورة في كتب التاريخ السياسي، بينما حافظت طروحاته وتصوّراته الثقافية على حيويتها وطزاحتها.


ويعتبر جرامشي واحدا من المفكرين اليساريين المحظوظين في الاستقبال النقدي، وإعادة الاكتشاف، إذ كُتب عنه أكثر من 20 ألف مقال، في 40 لغة عالمية، الأمر الذي جعله في صدارة الكتّاب الايطاليين قراءة منذ منتصف القرن الماضي، بحسب كتاب " جرامشيات: دراسات حول أنطونيو جرامشي" لمؤلفه أنجيلو دي روسي.


وربما الدرس الأهم، هو انتصار الكلمة على السجّان والديكتاتور، فإلى جانب جريمة موسوليني بحق جرامشي، فإن ديكتاتورا آخر وهو ستالين، ادّعى على جرامشي في محبسه أنه مؤيد لسياساته، وهو الأمر الذي كذّبه المفكّر رغم التضييق.


في يوم 27 أبريل عام 1937، مات جرامشي بعد خروجه من السجن بفترة قصيرة، متأثرا بالتعذيب، لكن أفكاره بقيت حاضرة، فيما رحلت الفاشية وأمثالها.