التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 07:39 ص , بتوقيت القاهرة

"إيما" و"أديل".. الكثير من الجنس لكن هناك طعام أيضا

 


بعيداً عن الضجة التي آثارها فيلم المخرج الفرنسي التونسي عبد اللطيف كشيش "حياة آديل" بسبب جرأته، فإن مشاهدة أخرى للفيلم تحثّ على محاولة استبطان ما هو أبعد، في فيلم يصوّر بواقعية يوميات مراهقة بين دراستها المدرسية وحياتها الليليّة، والبحث عن هويتها الجنسية، وعلاقتها بمحيطها العائلي والمدرسي، والرغبة في التحقّق والتحرّر.


قبل ثماني سنوات أنجز كشيش «كسكسي بالبوري» مرتكزاً في قصته بالأساس على حفل مرتقب وترتيبات اعداد الطعام والشراب له. وفي «حياة آديل» يجد مساحة لشغفه بالطعام يبدأها من بطلته التي تأكل الاسباجيتي بشراهة تشابه أحلامها واقبالها على القراءة. سيظهر طبق الاسباجيتي بالصلصة الحمراء بعد ذلك ثلاث مرّات في الفيلم.


مشاهد الطعام تزيد من فهمنا للشخصيات وحياتها الداخلية وتضمّن بداخلها خلفياتها الثقافية وتقاليد اجتماعية موروثة. مقارنة بسيطة بين عائلتي آديل وإيما حين تعزم ضيفاً على العشاء تبرز الكثير.


تنتهز كلتا العائلتين الفرصة للتعرّف أكثر على أبنائهما خلال الحديث أثناء تناول الطعام. والدا إيما أكثر ليبرالية، ليس فقط من ناحية قبولهما ميول ابنتهما الجنسية ولكن في تقاليدهما المتعلقة بإعداد الطعام: الضيوف والمضيفون يتشاركون الطبخ، وكل منهم له الحرية لإضافة ما يتراءى له إضافته إلى مكونات الأكل، بينما في منزل آديل تبدو الأدوار محددة والقواعد أكثر صرامة.


دورة الكلام تبدو متشابهة في كلا المنزلين، حيث تزداد جدية المحادثة بانتهاء الأكل وفيما يذهب الحديث في منزل آديل إلى مناقشة بخصوص كسب العيش، فإنه يأخذ منحى فكرياً في منزل إيما. في كلتا الحالتين نرى توريثاً للقيم من جيل إلى آخر.


هذه المشاهد التي ترسم بالتفصيل تطور أحداث يومية وعادية، يكون من الصعب تصوّر وجودها في فيلم أقصر عن نفس الشخصيات في نفس الفترة الزمنية، أما البنية الملحمية للعمل الفنّي فتسمح لنا برؤية الأشياء الصغيرة وحدس ما وراءها.


كشيش، في فيلمه الممتدّ لساعات ثلاث تقريبا، يصل لذلك الاستنتاج بخصوص العائلتين من خلال تفصيل صغير "محادثة ما بعد العشاء"، يعرض لنا لقطات قصيرة ومختارة تكشف شخصية كل فرد على مائدة الطعام وتظهر قيم العائلة في روتينها اليومي. ذلك الانصهار بين التفكير والسلوك ربما يبيّن صعوبة انفصال الأفراد عن جذورهم، فرفض قيم عائلتك غالبا ما يعني رفضا لسلوكها، الأمر الذي يعطى ظلالاً لحياتنا بطريقة لا ندركها.


لكن كشيش يدرك تأثير ذلك في مشهد العشاء في النصف الثاني من الفيلم، حيث بعد سنوات عدة يقام حفل في شقة إيما وآديل بمناسبة إكمال الأخيرة دراستها العليا. يبدو المشهد نسخة مكبّرة من العشاء الذي تابعناه في منزل والدي إيما في الجزء الأول: الجو مرح وبهيج، المحادثات حرّة ومتشعبة، الضيوف أغلبهم من المثقفين والفنانين.


وسط تلك الأجواء نشعر بآديل وإحساسها بالابتعاد (أو الاستبعاد) من الحفل رغم إخلاصها في تحضير كامل الطعام المقدّم لضيوف السهرة؛ ربما ذلك هو السبب الحقيقيى الكامن وراء غضبها: لقد احتفظت آديل -دون أن تدرك- بعادة والديها في التفريق بين المتعة والعمل، وهو ما لا يتناسب مع المشهد الاجتماعي الذي تحيا فيه شريكتها. إنها مسألة وقت فقط كي تتصدّع علاقتهما العاطفية وتتهاوى.



آديل فتاة منحدرة من أصول بسيطة في الشمال الفرنسي وكشيش يؤكد على ذلك، يمكن لناقد ماركسي أن يقدّم تحليلا طبقياً لمشهد العشاء في شقة والديها. دخولها في عالم إيما -الفنانة، المثقفة، ابنة الطبقة المتوسطة الفرنسية- يبدو شاذاً رغم الترحيب الذي تلقاه من أسرة حبيبتها والذي يمكن اعتباره إعجابا بتلك "الفتاة رائعة الجمال الآتية من الضواحي"، افتتان برجوازي بالأكزوتيك التي يشجعونها على أن تصبح "مبدعة" مثلهم.


بعد انقضاء فترة البدايات الوردية في علاقتهما، تبدأ التصدعات في الظهور حين ينتقل الزوجان لشقة إيما، وتخفي آديل علاقتها بها عن زميلاتها في المدرسة، إلى أن تتطوّر الأمور وتتشاجر معهن حين يعايرنها بمثليتها.


آديل بسيطة وحلمها الأكبر أن تصبح مدرسة (حلم مناسب لفتاة فرنسية من الطبقة العاملة)، ليست مشروع مثقفة في طور الإنجاز. حين تطهو طعام الحفل كلّه فإنها تفعل ذلك لأنه ليس هناك شيء آخر يمكنها أن تقدمه وسط تلك الزمرة من الأشخاص.


ولاحقاً، حين تغضب إيما "لأسباب فنية" وتشرك آديل بالموضوع، لا تجد المسكينة دوراً يمكنها القيام به سوى إحضار الشاي لإيما كأي ربّة بيت تجد زوجها معكّر المزاج بسبب مشاكل العمل. العلاقة تنتهي ليس بسبب خيانة آديل لحبهما مع زميلها أستاذ المدرسة، لكن لأن ذات الشعر الأزرق اكتفت من الجماليات الأكزوتيكية التي تمثّلها آديل في حياتها وترغب للدخول أكثر في صدفة الحياة الباريسية المغلقة على أفرادها المثقفين حيث الجدالات الفكرية وأحاديث القيل والقال التي لا تنتهي.