التوقيت الأحد، 28 أبريل 2024
التوقيت 01:15 م , بتوقيت القاهرة

مؤامرة «سرايا عابدين»

كما يقول المثل "سكتنا له دخل بحماره"، فلم يكتفِ صناع العمل "سرايا عابدين" من انتقادات العام الماضي للجزء الأول من المسلسل حتى أتموا الجزء الثاني منه، وكأنه تحدٍ صريح لإرادة الجميع، ولِمَ التحدي؟! ولِمَ العبث بتاريخ امتداد لأعظم تاريخ وحضارة في العالم وما الهدف من هذا التشويه!! يا عزيزي إذا كان محمد علي باشا الكبير هو من بنى مصر الحديثة، فالخديوي إسماعيل هو مؤسس مصر الحديثة فلِمَ تشويه التاريخ من أجل الحَبْكة الدرامية والواقع أصلًا ثرٍ وراقٍ بحلوه ومره وسيحقق نجاحًا أيضًا!!


يحضرني في هذا الصدد رأي كتبه الدكتور أحمد خالد توفيق في كتابه "قهوة باليورانيوم" عن الدكتور يوسف زيدان وإعجابه الكبير به وثنائه على سلسلة مقالاته "أوهام المصريين" في جريدة "المصري اليوم"، وكان للدكتور يوسف زيدان مقال يحمل عنوان "الناصر أحمد مظهر"، وأثنى دكتور أحمد خالد توفيق أن المقال بديع كالعادة وينطق بموسوعية دكتور يوسف زيدان، ولكنّه يرى المشكلة أن يتناول تاريخ صلاح الدين الأيوبي كما ظهر في الفيلم الشهير الذي قام ببطولته أحمد مظهر، فمن يأخذ التاريخ من الأفلام السينيمائية فتلك مشكلته، ويكفي أن الدقة التاريخية معدومة تمامًا في أفلام ضخمة مثل "قلب شجاع" و "طروادة"، كما أن ما ورد في فيلم "الشيماء" تقريبًا من خيال المؤلف.


ويرى أن دكتور يوسف زيدان انتهز فرصة المقال ليسوي حسابه مع نظام عبدالناصر أولاً باعتبار الفيلم يدور عن عبدالناصر بشكل مستتر (وهذا رأيه وحقه طبعًا)، وفي الوقت نفسه يزيل عن أذهان العامة بعض الخرافات العالقة بشخصية صلاح الدين الأيوبي، فصلاح الدين الأيوبي كان قائدًا خائنًا للسلطان نور الدين الذي أرسله على رأس الجيش من دمشق إلى مصر لتأمين حدودها ضد هجمات الصليبيين، فترك الأمر ومهد لنفسه السلطة، في الوقت الذي كان فيه صلاح الدين قائدًا من قواد السلطان نور الدين السني كان وزيرًا للحاكم الفاطمي لمصر الشيعيّ مع أن الدولتين بينهما خلافات، وبعد مناورات كثيرة ومداورات، اضطر صلاح الدين الأيوبي إلى اقتحام القدس ولم يفلح في انتزاعها من قبضة الصليبيين إلا صلحًا، ثم أعادها الأيوبيون ثانيةً إلى الصليبيين كهدية سنة 628 هجرية.


دكتور يوسف زيدان أول من حارب فكرة الزعيم الملهم الخالي من أية عيوب، ولكن يرى أحمد خالد توفيق أن صلاح الدين كان جزءًا من سيناريو انهيار الدولة العباسية، لكنه في النهاية الرجل الذي استعاد القدس، ويرى أنه لا توجد شخصيات بيضاء أو سوداء فعلاً في التاريخ، وأن فيلم الناصر صلاح الدين لم يقدم سوى البياض الساطع الشبيه بأثواب الحجاج، بينما مقال دكتور يوسف زيدان لم يقدم سوى السواد.


ويرى أحمد خالد توفيق أن السواد فقط في الشخصيات التاريخية سيعطي انطباعًا للعامة أن انتصاراتهم كلها وهمية، وأن تاريخهم ملفق وتنتزع ثقته في أنه من بناة الأهرامات وأن حرب أكتوبر هزيمة مروعة وأن تأميم القناة كان خطأ فادحا، جلد ذات لا ينتهي قد يبدو لذيذًا شهيًا للمصابين بالماشوسية لكنه يترك الباقين بلا أمل.


كامل الاحترام لوجهة نظر الدكتور يوسف زيدان والدكتور أحمد خالد توفيق، فالخلاف ببساطة هل تذكر في التاريخ والشخصيات التاريخية الأبيض الساطع فقط أو السواد الحالك فقط أم تذكر الاثنين وكلٌ له ما له وعليه ما عليه؟!


لكن الجديد تمامًا هو استبدال البياض بالسواد وتشويه تاريخك، جديدة دي لم أرها في أي داهية في العالم، فهي جريمة كبرى وخاصة في تلك المرحلة الحرجة للشرق الأوسط الآن من طمس للهوية العربية والمصرية ولنا في العراق مثل يا أولي الألباب بعد تدمير معظم آثارها، ولو استمرت على هذا المنوال سنين معدودة ستجد هوية العراق تلاشت، ولأننا في مرحلة بناء الآن لكل شيء حتى الهوية المصرية فلا بناء لمستقبل بدون تاريخ؛ لهذا كان اهتمامي هذه الفترة تحديدًا بتاريخنا وآثارنا وقصورنا التاريخية كي نجيد صناعة المستقبل.


ولكن ماذا يفعل مسلسل سراي عابدين في هذا التوقيت بالذات؟! وماذا تريد هبة مشاري حمادة منا؟! ولماذا كل هذا الصرف على المسلسل الذي لم يصل لروعة الأصل حقيقةً في الديكور حتى الكاتبة تاريخها في الدراما ضعيف جدًا ومحلي أقرب لمسلسلات الأطفال أمثال "فضة قلبها أبيض- أبلة نورة - أميمة في دار الأيتام - زوارة الخميس - بو كريم برقبته سبع حريم" جميعها مسلسلات خليجية ركيكة بوصف أهل الخليج لها بالسطحية، فما علاقتها بالعمل التاريخي العربي والمصري على وجه الخصوص وهو عمل عملاق وضخم عليها تمامًا!!


ولِمَ العبث والتشويه وتغيير الحقائق بتاريخ المصريين؟! أعتقد تاريخك أولى بكِ وإن كنت أرى أنها لو فكرت مجرد التفكير أن تحرف تاريخ الكويت من صيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ لحرفة أخرى ما تركها أحد بل سيطالبون بسحب الجنسية منها، فدول الخليج على الرغم من قصر تاريخها وعدم احتوائه على الأشياء المهمة، إلا أنهم يولون هذا القليل اهتمامًا بالغًا، ولهم كل الاحترام في ذلك.


ولو أنك من الفنانين شديدي الواقعية، لكنت دمجت البياض الساطع بالسواد الحالك للتاريخ، لا أن تستبدل بياضه بسواده وإلا تعتبر مؤامرة!! ولا تقل أن العمل مستوحٍ من التاريخ وليس مسلسلا تاريخيا لأنه يرصد شخصيات بأسمائها الحقيقية وأحداث حقيقية وثابتة ولكن تغير تاريخها ونقل أحداث قبل أحداث وإييييييييه زيطة لا أعرف الحكمة منها! فالعمل دراميًا تدليس في تدليس وحبكات مثيرة تشد المشاهد يصاحبه ديكور وأزياء مبهرة واضح الصرف فيها جيدًا.


أن تقوم بتدليس فترة مهمة في حياة مصر ما هو إلا جريمة، ففترة حكم الخديوي إسماعيل لمصر منذ عام 1866 حتى عام 1890 فترة مهمة وثرية ورائعة وليست بهذا الرخص المذكور في المسلسل، كان يحق لك أن تذكر ما للخديوي إسماعيل وما عليه في عمل درامي، لا أن تنسف الحقائق وتبدل في تواريخ على مزاجك، وتخوض بالباطل في أعراض شخصيات حقيقية مذكورة باسمها الحقيقي من أجل الحبكة الدرامية.. حبكت!


أنت تتحدث عن الخديوي إسماعيل خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، استحق لقب المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد إنجازات جده محمد علي باشا الكبير، تطوير الملامح العمرانية والاقتصادية والإدارية في مصر الحديثة يرجع إليه، وهو من قام بتحويل مجلس المشورة الذي أسسه جده محمد علي إلى مجلس شورى للنواب، وأتاح للشعب اختيار ممثليه، وهو من قام بتنظيم إداري للبلاد، وأنشأ المجالس المحلية المنتخبة للمعاونة في إدارة الدولة، قام أيضًا بالإصلاح القضائي وإلغاء المحاكم القنصلية.


الإصلاح العمراني كان له نصيب كبير في فترة حكمه من حفر قناة السويس وافتتاحها وإنشاء قصور فخمة كقصر عابدين وإنشاء دار الأوبرا الخديوية حتى إنشاء كوبري قصر النيل، استخدام لأول مرة البرق والبريد وتطوير السكك الحديدية وإضاءة الشوارع ومد أنابيب المياه، أضف إلى ذلك التطوير الاقتصادي والتعليمي والثقافي.


مهاجمة هذا المسلسل واجبة في هذه الأثناء تحديدًا وإلى هبة مشاري حمادة أيضًا وسؤال لها: حمادة راضي عن الكلام ده؟!