التوقيت الأربعاء، 24 أبريل 2024
التوقيت 09:40 ص , بتوقيت القاهرة

كوارث في تربية أبنائنا (1)

في مصر نرتكب أخطاءً لا تغتفر في تربية أطفالنا..

دعونا نتفق أولًا على أن المنظومة الأخلاقية في مصر تنتج الكوارث حصرًا، ففي مجتمع يدّعي أنه متدين بطبعه، ويرتكب كل ما ينهى عنه الدين بإخلاص تامٍ، لا يمكننا أن نتوقع اهتمام الغالبية العظمى من الشعب بتربية أطفالهم، لاسيما أن أكثر من هؤلاء الأطفال يأتون على سبيل "العزوة"، و"الونس"، واتقاء كلام كل "طنط" حشريّة لا تجيد إلا التدخل في شؤون الآخرين. باختصار يأتي الأطفال دون تخطيط حقيقيّ لتربيتهم وإعالتهم، استنادًا إلى مقولة شعبية خرقاء تقول "العيال بتيجي برزقها"، أيًّا كان رزقها هذا.

ولكن أن تنجب طفلًا دون أن تخطط لكل لحظة من حياته، وما ستقدمه له من رعاية تنشئه نشأة سويّة لا تخل بنفسيته، وتورثه عقدًا منذ الطفولة، تستحوذ على اهتمامي بشكل خاص مشكلة التفرقة بين الإخوة بناءً على أعمارهم، فيتحمل الابن الأكبر مسؤولية مرهقة لا داعي لها، فيما ينعم الإخوة الأصغر بلا مبالاة تجعلهم أكثر الأشخاص حظًّا على وجه الأرض.

ولنبدأ في استعراض تلك المشكلة منذ اللحظة الأولى.

من المتفق عليه أن تكون نشأة الإنسان بادئة فيما يُسمى بالعائلة، والتي تبدأ باقتران زوجين، ثم تنبثق من ارتباطهما فروع صغيرة هي الأطفال، والذين يصبحون إخوة وأخوات تجمعهم علاقة وثيقة، قادرة على تحدي الزمن نفسه.

ولعل علاقة الأخُوة من أقوى العلاقات البشرية وأكثرها تعقيدًا، إذ إن الإخوة عادة ما يتلقون تربية واحدة في البيئة نفسها، تقارب بينهم غالبًا في الطبيعة النفسية، والعادات التي يتربون عليها، وتصير دستور حياة يشتركون فيه، وتفاصيل صغيرة لا يفهمها سواهم.

ولكن فلنرجع إلى ما قبل هذه العلاقة الأخوية، ونبدأ منذ لحظة مجيء الأطفال

عادة ما يتم استقبال الطفل الأول بحفاوة عظيمة من أبويه، كونه الابن البكر والفرحة الأولى، ويتلقى رعاية وحبًّا غزيرين ينعم بهما لسنوات، سواء طالت أو قصرت فإنها تنتهي بمقدم الطفل الثاني. ومهما بالغت الأسرة في المساواة بين الطفلين بعد مجيء الأصغر، إلا أن الأكبر سيشعر بلا شك بكثير من الغيرة وبعض العدوانية نحوه، لكونه يحظى بعناية لا تُقدم له، وأعني بتلك العناية اهتمام الأم به أكثر، لعدم قدرة الرضيع على الاعتماد على نفسه بأي شكل، بعكس الأكبر الذي قد يتم تركه يعتمد على نفسه في أمور بسيطة، كتناول الطعام، أو غسيل وجهه أو تبديل ملابسه وحده.. إلخ.

والنقطة الأهم أن ميلاد الطفل الأصغر يتزامن غالبًا مع بلوغ الابن الأكبر سنًّا تستوجب بعض الصرامة لتربيته، فيبدأ التوجيه، والتأنيب عند الخطأ، في حين أن الطفل الأصغر لا يلاقي كل هذا، ما قد يرسب في عقله شعورًا ما بالظلم، أو أن أخيه جعله يفقد التدليل الذي يحبه. لكن تلك الفترة أيضـًا مهما طالت أو قصرت تنتهي.

ثم يكبر الصغيران وتبدأ حياتيهما..

وبداية حياة هذين الصغيرين تكون في المدرسة، ونظرًا لفارق السن يكون الأكبر غالبًا هو مرشد أخيه الأصغر إلى عالمه الجديد، والمسؤول عنه فيه، لكونه "صاحب خبرة" بالنسبة إلى شقيقه الأصغر الذي لا يدري أي شيء في الحياة سوى اللعب، ومشاهدة أفلام الكارتون، ومن هنا بالذات يبدأ الخطأ الأكبر.

كثير من أخطاء التربية، ونقطة تحول نفسية أحد الشقيقين أو كليهما تبدأ عند التفرقة بينهما في سن المدرسة، وهي تفرقة غير قائمة على استثناء أحدهما من الحب أو تدليل أحدهما بقوة دون الآخر، بل أسوأ أشكال التفرقة هي تولية الابن الأكبر مسؤولية الأصغر في كُل شيء.

في البداية تكون الفكرة جميلة للجميع، الأبوان يعتقدان أن الابن الأكبر سيرشد أخاه في المدرسة، ورُبما يصبح "أستاذه" على نحو ما أيضـًا، وبمرور الوقت قد يمكنه تولى مهمة التدريس له والعناية به بشكل تام.

والأخ الأكبر سيكون سعيدًا لهذه الثقة، يتطلع للقيام بمسؤوليته هذه على الوجه الأكمل، ليثبت نضجه لوالديه، وليحوز بإعجابهما وتأييدهما، أما الأخ الأصغر فسيستسلم لمرشده الذي سيكون مصدر حمايته في مكان جديد، وموضع اتكائه عند وقوع أي مشكلة أو متاعب، وستمضي الحياة.

لكن الحياة قاسية، وكما يقولون تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، لهذا ستمر تلك العائلة الصغيرة بفترات صعبة كأي عائلة أخرى تضربها الأزمات..
وهنا سيأتي الخطأ الثاني الفادح، وهو إخفاء أمر تلك الأزمة عن الأخ الأصغر، لأنه لا يزال صغيرًا لا يجب تحميله أي نوع من الضغوط النفسية، وتركه ينعم بطفولته قدر المستطاع، في حين يتم اختيار الأخ الأكبر للمشاركة في تحمل هذا العبء، باعتباره قد أبدى جدارة في تحمل المسؤولية السابقة وعددًا من الأعباء الصغيرة الأخرى.

وسيكون رد الفعل المتوقع هو سعادة أكبر للأخ الأكبر، إذ تم اختياره ليكون في مقام الكبار، أما رد الفعل الثاني فسيكون شعورًا قويًّا بالمسؤولية نحو الأخ الصغير، بشكل يجعله يضع زمام حياته في يده ليسير الأمر كما يراه في صالحه، وهكذا سيتحول الأكبر إلى ولي أمر الأصغر تدريجيًّا، ودون أن ينتبه أحد لهذا أو يتعمده.

ومن هذا الشعور الصغير بالمسؤولية المفرطة نحو الأصغر، سينبت شعور آخر خفي لن يفصح عن نفسه إلا بعد سنوات.. الإيمان التام بأن هذا الأصغر لن يفهم شيئـًا ويدركه مثله.

ماذا سيحدث لهما بعد ذلك؟

الإجابة في المقال القادم.