التوقيت الجمعة، 29 مارس 2024
التوقيت 09:55 ص , بتوقيت القاهرة

الغاضب دائما

في لحظة صفاء إنسانية، مددت له يدي مصافحا فى ابتسامة هادئة لا تعبر عن شيء قدر ما تعبر عن السكينة. مرت لحظات أظنها كالدهر دون أن يمنحني يمينه، غلبت خجلي وغلبني مرات متتابعة في تلك اللحظات المتوترة.


انتظرت حتى غلب اليقين الظن، بانعدام رغبته في التصافح، حينها سحبت يدي في خجل يمتزج بالأسى والغضب من الذات، ضاقت حدقتاه بغير داع, وأشاح برأسه في أنفة، ورغم أنه كان مدينا لي بالكثير حينها، إلا أن تصرفه بدا غير مألوف ولا مفهوم. انصرفَ وانصرفت، وكانت خسائري نفسية تتعلق بالكرامة والانزلاق بالنفس لحيث تأبى الذات الكريمة.


في المقابلة التالية، وفى المعتاد لم تكن هناك بيننا لقاءات اعتدنا ضربها، ولكن المصادفة وضيق المعاش ومحدودية المكان، كانت تتيح جميعها تكرار الفرص.. وللحق كلانا كان لا يستسيغ اللقاء، ولكنها تصاريف القدر.. وللحق أيضا كان دائما ما يراودني الشك في كونها مصادفة، أمر ما غير مرئي يجعلني أعتقد بالتدبير والقصد.


يومها تنكرت لما حدث من قبل، وحاولت تمرير الإهانة, فابتسمت، وانتظرت رد الابتسامة، فإن أتتني فسيكون من السهل مد يدي إليه بالسلام، وسأصافحه بمودة صادقة، وخيركم من يبدأ بالسلام.


كان يوغر صدري حينها، كونه هو المدين لي، بل هو مدين بالكثير، ولكنني كنت أكتم تلك الخواطر العابرة، حتى تأتي النتائج الطيبة لتزيحها للأبد، فاجأني بتقطيب ملامحه بشكل يبدو كأن ينتوي عنفا تجاهي، وبحركة فجائية نظر لأسفل ووجه رقبته يساراً, وبصق بصوت مسموع، فأخرج بعض من لعابه رذاذاً فى المكان.


دارت الأرض بى، وأيقنت أنني قتلت نفسى تمزيقا ومهانة.. أردت لو عاد بي الزمن، فأفعل كل شيء عكس اعتقادي وسلوكي، وليكن ما يكون.. تبا للأخلاق إن لم تحفظ لنا ذواتنا مصونة.


لم نكن وحدنا فقط في المشهد، إذ كان يربط بيننا صديق مشترك، كان هو أكثرنا اهتماما بمظهره، كان لسانه يقطر حلاوة، وهندامه المميز يشعرنا بالفارق الاجتماعي والمادي، كما كان أيضا يجيد الإنجليزية ويتحدثها بطلاقة، أو هكذا أخبرنا، وأخبرنا أيضا أنه يجيد عدداً من اللغات الأخرى، كما أنه تربطه علاقات صداقة بأفراد من جنسيات أوروبية وأمريكية، مما كان يشعرنا بالانبهار.


ورغم كونه ابنا لنفس الطبقة التي ينتمي إليها كلانا, إلا أنني تأدبا لم أحاول أن أساله عن سبب ثرائه البادي، ولسبب غير محدد كنا نعتبره مُقدَما علينا.


كان الصديق الثالث أقرب لي في السمات، وبفارق واضح عن ذاك الغاضب دائما، الذي لا يود في مصافحتي، حتى ملامحه وهندامه وسماته وربما تفاصيل حياته واهتماماته، كانت أقرب لي، رغم الفارق المادي.


كان دوما يتهمني بقلة الطموح، الذى جعل صديقنا الغاضب دائما، يدعي أنه يسبقني ويتفوق عليّ.. وكنت أرد عليه بكوني معتدلا، ولا أريد أن أكون غير ما أنا عليه.. أنا ببساطة شخص معتدل، لا أسعى لأكثر من المعايش الإنسانية المعتادة وبعض الطموحات البسيطة التي تؤمن مستقبلي ومستقبل أبنائي ما استطعت.


كان الصديق الثالث يحاول استمالتي بإصرار لشيء ما أجهله، ولكنه محسوس أيضا.. وكان دوما يؤكد لي فى انفرادنا، على اعتزازه بي أكثر من الصديق الغاضب دائما، كما اعتدنا أن نصفه.


تدخل صديقنا المهندم للإصلاح بيننا، ورغم علمه بما كان من الغاضب دائما تجاهي، وإساءة معاملتي، وبصقه فى حضوري، إلا أنه كان شديد الحرص ألا ينفرط عقد صداقتنا.


أكدت له مرارا أننا لا تنطبق على ثلاثتنا شروط الصداقة، ولكننا أقرب للمعارف منا للأصدقاء، ولضيق المكان فقط, نتقابل كثيرا.. فكان رده: بل أصدقاء للأبد.. وأكد أيضا على كوني الأقرب لقلبه وعقله من صديقنا الغاضب دائما!


باءت محاولات صديقنا المهندم للإصلاح بالفشل، وكان من ضمنها محاولة لا يمكن نسيانها، اجتمع خلالها ثلاثتنا فى بيتي، ولم يُبد صديقنا الغاضب دائما أي بادرة للترحاب، حتى أنه دخل بيتي صامتا دون تحية أو سلام، وقدم خلالها ابني الأصغر حاملا صينية عليها واجب الترحاب بالضيوف، حينها اصطدمت قدم الصبي بقدمِ الغاضب دائما، فما كان منه إلا أن صفع الصبي صفعة، دوّى صداها بالمنزل لبرهة.. ظروف الاستضافة كانت مانعة للانتقام لصغيري داخل منزلي وفقا للأصول المعتادة.. وكان الجُرح عميقا، كعمق جُب بغير قرار.


نجحت محاولات صديقنا المهندم فى منع الاشتباك الذي كان على وشك البدء، وأنهى الموقف بحنكة، وكان الشيء الوحيد الذى ردده الغاضب دائما فى منزلي منذ دخله: هو أنه كان يجب عليه كسر عنق ابنى، ليجعلني أموت كمدا بحسرتي عليه.. وأكد انه لن ينسى ولن يغفر مهما مر الزمن، دون أن يذكر لي ما لن ينساه.


وتكررت المحاولات الفاشلة من صديقنا المهندم، ولم يفتر إصراره، رغم أنني أصبحت أرفض تماما أي بادرة إصلاح منه، وأرفض فكرة رؤية هذا الغاضب دائما، ولو مصادفة..  حتى كان أن دعانا فى يوم لبيته لعمل محاولة أخيرة للصلح، وأكد لي أنه يصر على أن يعتذر الغاضب دائما لي ولابني، وأن يقدم ما أراه مناسبا من اعتذار وترضية، ورفضت بشدة, للغضب الكامن بداخلي وإحساسى بالذنب تجاه صغيري.. وأكد لي المهندم، كما يؤكد دائما، أنني الأقرب لعقله ولقلبه، وأننا أصدقاء بحق لأننا متقاربان فكريا، ويجب علينا احتواء ذاك الغاضب بيننا، وقبلت تحت إلحاح مكثف.


يوم اللقاء تأخرت لقيامي ببعض المهام، ومرت ساعتان بعد الموعد، حاولت الاعتذار عن اللقاء بالمهاتفة، فوجدت هاتف المهندم غير متاح.. ولكي لا أخلف موعدي، ذهبت إليه متأخرا قابلني طفلُ المهندم ذو التسع سنوات على سلم البيت يلهو، سألته عن أبيه، فأخبرنى: أن أباه وصديقه بالمنزل وحدهما، وأنه استيقظ وخرج ليلهو دون علم والده، قادني الصبي للباب الذي تركه، وأشار لغرفة الاستقبال المغلقة، وتركني ومضى لأقرانه.


توجهت لغرفة الاستقبال، وطرقت الباب بخفة، فردَّ صديقي المهندم  باعتباري طفله النائم، ففتحت الباب مبتسماً كمن يحمل مفاجأة، ومحاولا مداراة خجل التأخر عن الموعد.


وكان المشهد أعقد من أن يوصف أو يصدق، وجدت الغاضب دائما نصف عاري برفقة الصديق المهندم، الذي بدأ للتو في ارتداء ملابسه.


ابتسم المُهندم ابتسامة لا معنى لها محملة بالبلاهة، وبينما أهُم بالذهاب غير مصدق ما كان، وجدته ينادينى بهدوء شديد: أين ستذهب؟! ألم تأتِ للمصالحة؟!


المُصالحة! المُصالحة!