التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 07:42 ص , بتوقيت القاهرة

حدث في "سبوعٍ" مصري

شاء القدر أن تلد صديقة عمري طفلتها الأولى مؤخرًا، وكان للحدث عندي بهجة كبيرة جعلتني أقرر حضور "سبوعها"، متحدية كراهيتي لأي مناسبة تجمعني بالبشر، لاسيما المصريين.


وعلى هذا يا سيدي تأنقت متجهة إلى السبوع، الذي حُدد موعده "بعد عصر الجمعة"، لسبب استغلق على فهمي، المهم أنني ذهبت وحملت الطفلة عن أمها ريثما تتجهز للمراسم المقدسة المنتظرة، حتى فوجئت بأن جميع الحاضرين لا بد أن يحملوا الطفلة بأنفسهم، متجاهلين حقيقة أنها "نامت بعد ما طلعت عيوننا". المهم أنهم أخذوا الطفلة مني فوجدت نفسي وحيدة وسط معمعة كبيرة، أصغي لأحاديث تعد ولا تحصى، مصبوغة بصبغة مصرية -لعينة- خالصة.


كانت أول الحكاوي عن شاب وفتاة، أحبّا بعضهما حبًّا عنيفًا دام أربعة أعوام، ثم تقدم لأهلها و"اتفقوا".. قالتها السيدة الخمسينية بلهجة تآمرية غامضة وكأنهم أتمّوا لتوهم صفقة لشراء أسلحة نووية! واستكملت الحكاية:


-"أهلها قالوا عايزين شبكة بـ15 ألف وقلنا ماشي، وبعد فترة جه طلب مني ألفين جنيه كمان.. طب ليه يا بني؟ عشان طلبوا الشبكة بـ20 ألف، وأخوها قال هيدفع 3000 من جيبه، وبكده وقفوا على ألفين جنيه".


-"وبعدين؟"


-"قلت له إحنا كان بيننا اتفاق، وكده الاتفاق باظ".


-"طب والبنت؟"


-"قالت إنها شارياه وعايزاه، ولما يتجوزوا مستعدة ترجع له الشبكة يعمل بيها اللي هو عايزه، بس "يراضي" أهلها دلوقتي".


-"وبعدين؟"


-"لقيت إن كده كتير عليه، 17 ألف شبكة ولسة باقي تجهيزات البيت، فخلاص بقى".


-"لا إله إلا الله".


جلست أرثي قصة الحب الفقيدة، التي راحت بطلقة عيارها ألفين جنيه، وطلبات خزعبلية لا نهاية لها، من أهالي خزعبليين بدورهم.. بأي عقل يُطالب شاب تخرج حديثًا بشبكة قدرها 20 ألف جنيه؟ بأي عقل؟ لماذا؟ ولماذا كل هذا الأثاث الكثير الذي يملئون به البيوت؟ البيوت المصرية دائمًا ضيقة وخانقة، بسبب قطع الأثاث الكثيرة والضخمة، وكلنا تعذب بها في بيت أهله، فلماذا يصر عليها حين يؤسس بيتًا آخر بنفسه ولنفسه؟


ثم بدأت مراسم السبوع، فجاءوا بكيان ما أبيض مطرزًا بالدانيل أشبه ببيوت الكلاب، غير أنه كان مفرغًا ويحتوي على سلة توضع فيها الرضيعة! حسنًا! لن نعلق على هذه التفصيلة غير المفهومة! المهم أنهم وضعوا الطفلة وسط السلة، ونادت أخت صديقتي عليها تدعوها إلى "تعالي خطّي على بنتك يالا"، فبدأ الضحك والمرح، ورفعت الشابات منّا الكاميرات لتسجيل تلك اللحظة الكوميدية، حتى أطلقة واحدة من "الطنطات" الخمسينيات صرخة رهيبة انخلعت لها قلوبنا، ونظرنا ننتظر المصيبة التي حدثت فقالت:


-"متخطيش ع البنت لازم مفيش بخور".


سألتها:
-"ايه علاقة ده بده طيب يا حاجة؟!"


-"مينفعش تخطّي ع البنت كده، لازم بخور، هو السبوع كده".


-"أيوة يعني مين حطّ قواعد "الدين" ده وقال إن لازم بخور؟ دي كلها إجراءات شكلية يعني! شيء للاحتفال والمرح يا حاجة! مجرد طقوس بلهاء للضحك والهزار!"


-"لا لا، مينفعش تخطي ع البنت بدون بخور".


-"يا ستي ورب الكعبة دي مجرد شكليات!"


تدخلت "طنط" أخرى في الحوار:


-"المغرب قرّبت كمان يا جماعة، بلاش تخطي ع البنت وخلصوا السبوع يالا".


-"ايه علاقة ده بده كمان إن شاء الله!"


-"السبوع لازم يكون بعد العصر، الملايكة ليها وقت تحرس العيّل وبعدين تطلع تاني".


-"لا والنبي!!"


تدخلت طنط الأولى:
-"اسم الله عليكِ يا حاجة، قوليلهم".


-"الكلام اللي سعادتكم بتقولوه ده مالوش أي مرجع علمي ولا ديني ولا منطقي، ولا يقنع عقل عيّل! أنتم بجد مصدقين نفسكم؟"


لكن صديقتي انصاعت لكلامهما لتنهي الموقف، بل وتجاهلت ما حذرتها منه قبل بدء السبوع، من ترك أحد يدق "الهون" بجور أذن صغيرتها، حتى لا يتأذى جهازها السمعي من كل هذا الإزعاج.


اضطررت للانحناء جوار الطفلة، وسد أذنيها الصغيرتين بإصبعيّ، ما جلب عليّ عاصفة من اللوم والتوبيخ والشجار الحاد، لماذا؟ لأنني وغدة آثمة تمنع الطفلة من سماع الصوت العالي، و"العيل لازم يسمع صوت الهون العالي عشان ميتخضش بعد كده"، لكنني قلت ببساطة إنني أصبحت "شحطة" في السادسة والعشرين ولا يزال الصوت العالي يفزعني.. عادي يعني.


لم يطل بي الوقت في هذا السيرك، كانت بعض الفتيات يتحدثن عن الإيقاع بعريس ما، وعن أخرى ستنسحب من الدراسة نزولًا على رغبة البيه خطيبها.. خرجت من بيت صديقتي موقنة أن هذا البلد لن يشم رائحة التقدم إلا بشيئين، أولهما تعليم الفتيات أنهن بشر، خلقن بشرًا لا مشروع آلة للإنجاب تباع بشبكة باهظة وأثاث كثير.


وثانيهما أن نبيد كل "الطنطات" و"العمّوهات" كبار السن، كل من يعتنق هذا "الدين" المصري من الطقوس الحمقاء المقدسة، والطلبات العجيبة والمنطق المعوج والأفكار البالية، لا بد أن يختفوا جميعًا من على وجه البسيطة لنستطيع أن نعيش.


لا تعيشوا على خطاهم يا سادة، ولا تنسوا أنهم السبب في كل ما يعانيه جيلنا الآن.. كل شيء لعين غرقنا فيه حتى آذاننا هم المسؤولون عنه.