التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 11:37 ص , بتوقيت القاهرة

عن الشرف وأشياء أخرى في "بيروت 75"

طرحت غادة السمان في "بيروت 75" أهم أسئلة الأدب النسائي، التي سيظل يدور حولها إلى اليوم، وذلك رغم أن الرواية حمالة أوجه، يمكن قراءتها ــ كما يفضل معظم النقاد ــ قراءة سياسية، ولا مجال لإنكار أنها ذات طابع سياسي، ولا أنها تنبأت بالحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت بعد نشرها بأشهر قليلة، ولكن العنصر الفريد في الرواية هو طرحها لتساؤلات المرأة العربية الحائرة في هذه الفترة، وربما إلى الآن.


قصص 5 شخصيات رئيسية في 112 صفحة، يعني أن الرواية شديدة التكثيف، رغم أنها "سردية" بالأساس، ويعني أن الكاتبة بذلت جهدا كبيرا في اختصارها ـ ربما عدة مرات ـ بحيث تخرج قصيرة ولكن مليئة بالشخصيات والأحداث والسرد إلى هذا الحد.


4 رجال وامرأة، هي "ياسمينة"، ذات الـ27 عاما، تسافر من دمشق إلى بيروت بحثا عن المال والشهرة، والأهم، بحثا عن الحرية.


"تعبتُ من العمل أستاذة في مدارس الراهبات. سمئت. سئمت. سئمت. الأيام تمضي ثقيلة كجسد مخدر على طاولة العمليات. وأنا لا أفعل شيئا سوى التدريس والضجر وكتابة الشعر. بيروت تنتظرني، بكل بريقها، بكل إمكانات الحرية فيها، بكل إمكانات الحب فيها، بكل إمكانات الشهرة فيها، بكل إمكانات نشر قصائدي في صحفها، وقلبي طائر جائع للتحليق. لن أرى راهبة بعد اليوم".


رحلة ياسمينة من دمشق المحافظة المنغلقة إلى بيروت المتحررة المنفتحة، التي تضعها في المأزق الوجودي الذي عانته المرأة العربية منذ ستينيات القرن الماضي إلى الآن تقريبا، مأزق الحرية الجنسية وتوابعها، و"حقيقية" امتلاكها لجسدها، ومعنى كلمة "الشرف" وموقف الرجل الشرقي من كل ذلك.


وفي بيروت تُسلم ياسمينة جسدها لأول رجل يبدي إعجابه بها "نمر السكيني"، الثري اللبناني، وابن رجل الأعمال والسياسي، وتحقق معه تجربتها الأولى، وتشرّح غادة الكبت الهائل الذي ترزح ياسمينة تحت وطأته.


"لم أخلع ثيابي بأكملها من قبل إلا في الحمام!.. وكنت دوما أرتديها قبل خروجي متسترة بالبخار الكثيف والنور الشاحب.. بلى.. خلعتها كلها في بيت رجل في دمشق. يومها أغلقنا النوافذ كلها. أسدلنا الستائر كلها. أطفأنا الأنوار كلها. أقفلنا الأبواب كلها. ومع ذلك ظلت أصواتهم تنزف من الظلام وترقص على الجدران محذرة من "الإثم" الذي سيقع.. كانت صيحاتهم وصيحات أمي تخرج من جسدي كأني مسكونة بهم. كلماتهم عقارب تغطي جسدي وتلسعه.. وصاياهم كائنات أسطورية كديدان المقابر تركض فوقي في الظلام وتطفئ شهواتي. وحين لمسني، انطلقت الأصوات كلها صارخة دفعة واحدة كجوقة رعب، ولعله سمعها، فقد عجز عن امتلاكي وانطلقت هاربة من بيته. ولم أره بعدها. ولم أكررها".


وبمحاذاة ذلك، تشتري صمت شقيقها عن علاقتها بنمر، بأموال كثيرة مما يغدق به عليها. ولكن تتسرب سعادتها سريعا، عندما يتسلل الملل إلى شريكها.


"شيء ما قد انكسر بينها وبين نمر. شيء من البرود صار يلف علاقتهما. خيط من الموت تسلل إلى كل ما يدور بينهما. خيط من الصدأ نبت على الشفاه والجسد، وصارت تحس لقبلاته طعم الصدأ في فمها… ماذا حدث؟ لا تدري. إنها لا تزال تلتهب تعلقا به، لكنها تعرف بحدس الأنثى الذي لا يخطئ أن شيئا ما قد انتهى…".


وبالفعل، صفقة عشائرية تحقيقا لمصلحة سياسية تؤدي لخطبة بين نمر السكيني ونائلة السلموني، ابنة الغريم السياسي لوالد نمر، الخطبة التي لا تكاد ياسمينة تصدق إمكانية وقوعها، ولكنها إذ تقع، تفيق على واقعها البائس، وتكتشف أنها قطعت على نفسها كل الجسور، ولم تعد تعمل، ولا بإمكانها أن تعود لدمشق، فتقرر ـ يائسةً ـ أن تحادثه عن الزواج!


" ـ إني أحبك.. وفي بداية علاقتنا كنت تلمح لي عن الزواج…
ـ الزواج؟! أيتها المجنونة.. هل تصدقين أنني أستطيع أن أتزوج من امرأة أسلمتني نفسها قبل الزواج؟ أنا أتزوج امرأة ضاجعتها قبل ليلة العرس؟ أسلمتني نفسها قبل الزواج؟".


وفي لحظة دالّة، ترقص ياسمينة عارية على موسيقى كارل أورف، "وتصطدم بالنوافذ باحثة عن مخرج خلف النوافذ".



وإذ يعتزم نمر الزواج من نائلة، يسلم ياسمينة إلى أحد أصدقائه "نيشان"، ويقرر تجنبها في فترة زواجه الأولى تحاشيا للفضائح، وينوي العودة إليها بعد ذلك.


وهي، يكون عليها أن تقرر: الانتقال إلى نيشان أو الفقر. فتذهب إلى شقة شقيقها، وتفكر: "لو.. عرفت رجلا آخر قبل نمر، لو سمحوا لجسدي بأن يعيش علاقات سوية في دمشق، هل كنت أضيع إلى هذا المدى؟" وينشب بينها وبين أخيها شجارا على المال، فيقتلها، ويذهب للشرطة قائلا: "لقد قتلت أختي دفاعا عن شرفي، وأريد أن أدلي باعترافاتي كاملة!".


قتلها دفاعا عن شرفه!!


وإمعانا في "الشرف" يصمت الشقيق عن ذكر اسم نمر السكيني في التحقيقات عندما يعرض عليه الثري اللبناني وظيفة تضمن مستقبله عقب خروجه من السجن.


قطعا لم تقدم غادة السمان إجابات، ولم تكتشف حلولا، فقط طرحت أسئلة، وبعد 40 عاما لا تزال نفس الأسئلة مطروحة!


للتواصل مع الكاتبة