التوقيت الإثنين، 29 أبريل 2024
التوقيت 01:45 ص , بتوقيت القاهرة

حكاية سعاد (1)

ذات يومٍ شديد الحرّ، جلس «معاوية بن أبي سفيان» في مجلسٍ له بدمشق، تحيطه حاشيته من كل جانب. كان المجلس مُفـتّـح الأبواب، مُشرع النوافذ، وبينما القوم يتسامرون، إذ وقعت أبصارهم على رجلٍ من العامة في حالة رِثة. نظر معاوية إلى قدميه الحافيتين بتمعن، ثم نادى على غلامه وقال: 


«يا غلام! اذهب  إليه واكشف عن حاله وقصّته، فوالله لئن كان فقيرًا لأُغنينّه، ولئن كان شاكيًا لأنصفنّه، ولئن كان مظلومًا لأنصرنّه». ومسرعًا، أطاع الغلام أمر الخليفة. خرج إليه. سلّم عليه، فرد السلام، ثمّ قال: ممّن الرّجل؟ 


فأجاب: أنا رجلٌ أعرابيٌّ من «بني عُذرة» سيدي. ولعل القارئ يعلم أن إلى قبيلة بني عُذرة يُنسب الحب العذري. 


المهم؛ عاد غلام معاوية مصطحبًا الأعرابي، وما إن وقف بين يديه حتى سلّم عليه بالخلافة، وقبل أن يسأله أمير المؤمنين عن قصته، عاجله الأعرابي بالقول: معاوية يا ذا العلم والحلم والفضل!


أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي
فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصافٍ من الجّائر الذي
شواني شيّاً كان أيسره قتلي
سباني سعدى وانبرى لخصومتي
وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني
بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمّ بقتلي غير أن منيّتي
تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّةً


وعلى الفور، فهم معاوية أن الأعرابي يشتكي إليه أحد الولاة، ولما سأله من يكون أجاب: هو والله ابن عمّك «مروان بن الحكم». وكان مروان إذ ذاك أميرا على مدينة رسول الله ?. ثم أردف معاوية: وما قصّتك مع مروان يا أعرابي؟ 


فأجاب: كانت لي بنت عمٍّ تزوجتها لِما كانت فيه من كمال وجمال وعقل وصلة قرابة، فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسرورًا قرير العين زمانًا.


وكان لي عدد من إبلٍ وغنم أعولها وأنفق على بيتي منها، ثم دارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ أفناها، وبقيت لا أملك شيئًا. إذ ذاك؛ ساء حالي، وصرت مهينًا فقيرًا، ولمّا بلغ أباها ما أنا فيه، حال بيني وبينها.


أنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي، وما بيدي من حيلة ولا نُصرةٍ، فذهبت إلى عاملك، الوالي «مروان بن الحكم» أشكي إليه، فبعث إلى عمي.. فحضر.


ولمّا وقف بين يديه، قال له: يا أيّها الرّجل! لما فرقت بين ابن أخيك وزوجته؟ فأجاب عمي: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوّجته من ابنتي قط!


فطلبت منه أن يأتي بـ سعاد لتشهد.. فبعث إليها، فأتت مسرعةً، ولمّا وقفت بين يديه ونظر إلى حسنها وجمالها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي يا أمير المؤمنين خصمًا وانتهرنى، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت من السّماء في وادٍ سحيقٍ.. ثمّ قال مروان لأبيها: هل لك أن تزوّجها لي بمهر مقداره ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ؟ فقال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها لك! 


ويُسهب الأعرابي، وعيناه مملوءتان بدمع الشوق والأسى، في قص حكايته على خليفة المسلمين، فيقول: 


فلمّا كان الغد بعث إليّ مروان، وحين أُدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، وقال: يا أعرابي! طلّق سعاد. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي، فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعاد. فقلت: لا أفعل، فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خُدّامه فضربوني ضربًا مبرحًا، ثمّ أمر بي إلى السّجن، ولمّا كان اليوم الثّالث أعاد الكرة؛ قال: علىّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه إذا به قد أحضر السيّاف هذه المرة، وقال: يا أعرابي! وجلالة ربّي، وكرامة أبي، لئن لم تطلّق سعاد لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك. فخشيت على نفسي القتل، فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السُنـّة. 


وبعد أن طلقتها، أمر بي إلى السّجن مرة أخرى، فحبسني فيه حتّى تمّت عدّتها فتزوّجها، ثمّ أطلقني من سجني، فأتيتك مستغيثًا قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين، فوالله لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ.. وانتحب باكياً حتىّ كادت نفسه تفيض إلى ربه، ثمّ أنشأ يقول:


? القلب منّي نارٌ ... والنّار فيه الدّمار 


والجسممنّي سقيمٌ ... فيه الطبيب يحار 


والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار 


حملت منه عظيماً ... فما عليه اصطبار 


فليس ليلي ليلٌ ... و?نهاري نهار 


فارحم كئيباً حزيناً ... فؤاده مستطار


  اردد عليّ سعادي ... يثيبك الجبار 


وما إن انتهى من إلقاء تلك الأبيات إلا وخرّ مغشيًّا عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق.


وكان معاوية إذ ذاك متكّئًا، فلمّا نظر إليه وقد خرّ بين يديه، قام فاعتدل، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضرارًا في حدود الدّين، وإحسارًا في حرم المسلمين، وأردف: والله يا أعرابي لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ نادى على خادمه قائلاً: يا غلام! أحضر الدواة والقرطاسٍ..


فماذا كتب معاوية إلى مروان بن الحكم؟


هذا ما سنعرفه في مقال الاثنين القادم، إن شاء الله، حين نستكمل الحكاية التي حفظها لنا ابن الجوزي. 


للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك