التوقيت الجمعة، 19 أبريل 2024
التوقيت 08:15 ص , بتوقيت القاهرة

مملكة السيد أبو سريع

<p><span style="color:#FF0000;">(1)</span><br />الحر خانق هنا، والرطوبة مرتفعة، وقد استغفلني السيّد أبو سريع مطمئنا لسمت هيئتي الوقور، واستطاع بإيماءة هادئة دون اكتراث أن ينال ثقتي التامة، نظرة عابرة التقت فيها عينانا، أقنعني خلالها بالفعل بدخول مملكته والانضمام لقدامى رواده، وجدتهم جميعا طيبين للغاية، حتى أنهم يلقون بهمومهم على أكتاف بعضهم في استسلام، فجميعهم أبناء أصول طيبة فيما يبدو من هيئتهم.</p><p>ورغم قِصر المدة التي استغرقها حديثنا، وهي مدة قصيرة للغاية، يصفها  البعض باللحظية، إلا أنه قد استطاع أن يأسرني بثقته في نفسه، وبثقة أصحابه به، إلى درجة استئمانه على مستقبلي، ولشدة إيماني به منحته حقوقا عظيمة، منها ما يمس حياتي مباشرة، دون أن أحاول الحصول منه على أية ضمانات، فكلمة السيد أبي سريع هي صك معتمد ومثال للشرف والصدق، ولثقة السلطات بالسيّد فقد منحته تفويضا مفتوح المدة يتجدد من تلقاء نفسه.. طمأنني السيّد إلى كوننا متفقين في الكثير، وليس بيننا من فارق سوى بعض ما يتعلق بالمظهر، أما جوهر كلانا فواحد ولا شك، وإلا فلماذا توحدت وجهتنا؟! </p><p><span style="color:#FF0000;">(2)</span><br />ساء مزاجي للغاية، ليس الأمر هنا كما بدا لي من ذي قبل، البون شاسع.. الكذب آفتنا، ولا أتعلم منه رغم التكرار.. اخترت أن أكون ضحية مستديمة، ورغم تكرار الخديعة إلا أنني كل مرة أجدد ثقتي بالسيّد أبي سريع.</p><p>للسيّد عدد ضخم من الأشقاء، قيل إن أباه قد أنجبهم من إحدى الجنيات، ونثرهم بأنحاء البلاد، بكل بلدة لا بد أن تجد للسيد أخا، كان أبوهم فحلا عامرا بالحياة، فارتبط أبناؤه بالحياة بشدة، لا يوقفهم شيء عن محبتها، لكنهم دائما ما يصمون بعضهم بسمعة الأم السيئة!</p><p><span style="color:#FF0000;">(3)</span><br />استقبلني رواد مملكة السيد بالترحاب في أغلبهم، بعضهم استقبلني بالابتسام وبعضهم بالاهتمام وبعضهم بتدقيق النظر إلىّ، وأخلوا لي فيما بينهم مكانا  يليق بي، واستقريت إلى محلي بينهم في ثقة، حتى اعتادوني واعتدتهم.. لم نحتاج لوقت طويل كي نصل إلى هذه النقطة.. ولم نحتاج لوقت طويل أيضا حتى بدأت الخلافات في الظهور.</p><p>ولكوني الأحدث بينهم، فقد كنت آخر من يعلم بتفاصيل الاجتماع وخبايا المكان.. يحدث هذا في كل تجمع بشري، أن يخفي الأقدمون عن المستحدثين بعض الأشياء، حتى تظهر تباعا بالتدرج، فيظهر الخجل في البداية والصدمة، ثم يتفقون جميعهم على تكرار الخدعة تجاه وافد جديد.</p><p>فقد كانت أول صِداماتي معهم، حينما رغبت في تنسم الهواء البارد اللافح، لكن بلادة أحدهم حرمتني هذه المزية، لا شيء يجعله يمنعني سوى البلادة والاستخفاف باحتياجاتي، أخبرتني عيناه المتلفتة في ازدراء لتفاهتي: أن تلك الرفاهية البسيطة، ليست دافعا قويا يجعله يبذل مجهودا ما بتحريك كتفه قليلا، لأتمكن من إيجاد منفذ لي أتلقى من خلاله الهواء المنعش عبر نافذة سدها بجسده عني.</p><p>ثقافة الجار الذي يتقدمني تعلن أن الضرورات القصوى فقط هي الملزمة بتحريك بدنه الضخم، وتنفسي الهواء البارد ليس من الضرورات القصوى على كل حال.. السيد لم يتدخل مطلقا ولو بإشارة لحسم المشكلة.</p><p><span style="color:#FF0000;">(4)</span><br />أما ذاك النحيف الذي يجاوره فقد تبارى معه فى أمر إذلالي، فهو كبندول الساعة لا يثبت في مكان، فمنذ اتخذ كل منا موضعه وشرع السيّد فى ممارسة طقسه المقدس، وهو لم يهدأ، فكلما جئت أتخذ لنفسي مستقراً للراحة، أمارس خلاله طقس تدبري وأُطلق لعناني الخيال، أجد ذلك البندول النحيف يلاحق نظراتي يمنة ويسرة، حتى جعلني أهرب منه بالنظر إلى الأرض أو بالتأمل بالسقف. </p><p>بينما فضّل ذلك الأصلع الأربعيني، الذي اتضح أن له علاقة حديثة بسيدة لا يعرف اسمها، جعلتهما يديران حوارا هامسا فيما بينهما، أن يتحدث بلا توقف.. رغم نظرات السيد أبو سريع اللافحة نحوهما، تطالبهما بالتحشم في الجلوس واحترام هيبة الجمع والمملكة، إلا أنهما قد تجاهلا مضيفهما تماما ولم يتوقفا عن الحديث، والذي تظهر منه حروف سين متكررة كل بضع ثوان، تشبه تلك السين التي يطلقها الراكع أثناء ترديده "سبحان ربي العظيم"، السين الدالة على المضمون التي لا تسمع منها سوى حرف واحد، فتستنتج منه باقي العبارة، ويظل يتردد صداها بداخلك، فتكملها نيابة عنه.</p><p><span style="color:#FF0000;">(5)</span><br />أما السيّد أبو سريع ففيما يبدو أن هدوءه البادي منه حينما كان يقنعني بدخول مملكته، كان ستاراً لضجيج مكنون، فالسيد يعتمد في مبدأه على تحقيق الهدف عبر قوة الصوت لا مضمونه، الصوت المزيح لكل ما عداه، فآلاته دائمة البث، دون اعتراض من أحد.</p><p>بعضهم كان يتفادى ضجيج أبي سريع بضجيج آخر خاص به، لكن الإشارات بينهم وبين السيّد لم تنقطع من خلال نظرات متبادلة على فترات متقاربة.</p><p>قد دخل مملكة السيد أيضا أسرة صغيرة، كانت مهمتها تناول الطعام، فامتلأت الأجواء برائحة الزيت المقلي.</p><p><span style="color:#FF0000;">(6)</span><br />كان أملي مع السيد الانطلاق من قيودي، فاكتشفت معه قيودا مزعجة، جعلتني أتمنى الانعتاق منها سريعا والعودة لقيودي المعتادة، فهذا منع عني الهواء، وذاك منع عنى الرؤية والسيد ذاته لم يمنحني حتى فرصة طيبة لسماع نبضاتي وأنفاسي، وهذه الأسرة دمرت جهازي العصبي برائحة زيوتها وأنفاسها، حتى تمنيت أن يكون شهيقهم بلا زفير.</p><p>كل حواسي قد انقطعت معهم، فاكتشفت أن ابتسامة السيد لي في البداية، لم تكن سوى فخ خبيث، لتوريطي في الدخول لمملكته والتفاعل مع روادها، لإنتاج دراما تليق بمسرحه.</p><p>المواعظ تملأ الجدران، وكذلك الصور الماجنة، وعلى رواد المملكة اختيار ما يليق بشخوصهم، فالسيد أبو سريع يؤمن بالحرية والديمقراطية.</p><p><span style="color:#FF0000;"> (7)</span><br />اختنقت وأدركت أن  المكان لم يعد مناسبا، وقد آن الأوان لأغادر مملكة السيد أبي سريع، ذاك المكان الذي حججته مهْرَبا فانقلب جحيما، ما زال لي عند السيّد بعض الحقوق لا بد من انتزاعها قبيل الهروب.. يغلبني الخجل والتردد، وقد خرج صوتي منخفضا متلجلجاً حينما طالبته بها علنا أمام الجميع، شعرت خلالها بكوني متسولا، خاصة وأن حقوقي لديه ليست ضخمة، لكني لا أقبل لكرامتي أن يسلبني أحدهم شيئا ولو كان تافها.</p><p>منحني السيد إيماءة طفيفة من رأسه لا أدري معناها، ربما هي تعني الموافقة، أو ربما تطالبني بالصبر لبعض الوقت، وربما تعني انسجامه الوجداني مع ضجيج آلاته، وربما لا تعني أي شيء على الإطلاق سوى مصادفة عظيمة وافقت توقيت سؤالي.. السيد أبو سريع لا يتكلم كثيرا، لكنه إذا ما حدث وتكلم وددت لو أنه سكت أبداً!</p><p>حينما كررت طلبي للسيد في حرج بحقوقي لديه، وجدته قد أخرج من جيبه شيئا ودسه بكف أحدهم، فيقلبه هذا بكفه ثم يدسه في يد جاره، ثم يكرر جاره الفعل ذاته، وهكذا من يد ليد حتى وصل لجاري الضخم، فدسه في جيبه في لا مبالاة.</p><p>عاودت طلبي للسيد أبو سريع، وقد أدرك نيتي بالفرار من مملكته، فدس يده فى جيبه وأخرج منه شيئا نظر إليه عن قرب، ثم منحه لأحدهم، فنظر إليه بطرف عينيه في اهتمام، وقد قاربت يده جيب قميصه فخاب أملي، ثم ابتعد بيده عن جيبه، فأطلقت زفير الانفراجة، وأيقنت أن حقي هذه المرة في الطريق إليّ، رأيت عيونا متلهفة، أظنها لها حقوق مماثلة لدى السيد أبو سريع.</p><p>السيد يأخذ حقه فورا، ولا يترك لأحد نصيبا من حقه، لكنه يماطل قليلا في رد الحقوق لأصحابها، اعتمادا على اسمه وسمعته البراقين.</p><p>تعلقت العيون بيد رفيقنا المعلقة جوار جيبه، فأخذ مما ناوله السيد شيئا دسه بجيبه، وأخرج من جيبه شيئا، تعلقت العيون والقلوب به في شغف، كل يطمح في أن يكون السيد قد لان قلبه نحوه بحقوقه الغائبة، ظهر الحقد بين زوار السيد وسادت النظرات الساخطة.. نشب القلق بين الجميع، وساد الحقد والطمع.</p><p>استقرت منحة السيد أبي سريع هذه المرة في حقيبة السيدة الثرثارة، فانتشرت السعادة بملامحها.. تكرر الموقف مرات دون أن يجيبني السيد بإجابة شافية، عما ينتويه نحوي، التوتر يزداد بعدم حسم السيد أبو سريع لأمره، إنه لا يريد إنهاء الأمر وتوتري يزداد، وتوتر كل من لم تصل إليه حقوقه، في حين انفرجت أسارير من نالوا حقوقهم.. اكتشفت أن الكثيرين لديهم حقوق متأخرة لدى السيد أبي سريع، وكل من نال حقه غادر المكان مسرعا في أول فرصة، وهكذا حتى لم يتبق سوى القليل.</p><p>مع كل حق يصل لصاحبه ويفوتني، يتفاقم توتري، لم يبق بيننا سوى القليل من رواد مملكة أبو سريع، بمَ سيحكم علىّ السيد أبو سريع؟!<br /> <br /><span style="color:#FF0000;">(8)</span><br />استجمعت شجاعتي وقررت استبعاد خجلي وترددي، ووجهت نظري في حدة نحو السيد أبي سريع، والعرق يتصبب من جبهتي، بفعل الرطوبة والتوتر، وقلت والنظرات تلفحني، في صوت يجر كلماته جراً، كي لا يقطع الخجل تواصله: لي نصف جنيه باق يا أسطى لو سمحت علشان نازل هنا.. فنظر أبو سريع في مرآته المواجهة بالتابلوه، المكتوب فوقها بلون أحمر قان "يا بني اركب معنا" وهز رأسه باستخفاف قائلا: والله عارف.. </p>