التوقيت الجمعة، 03 مايو 2024
التوقيت 04:24 م , بتوقيت القاهرة

أنا سفسطائي !

<p>لما كنا صغيرين حذرونا من الفلسفة، من الفلاسفة وإلحادهم، زرعوا في دماغنا أفكار من نوعية "اللي بيفكر كتير بيتجنن"، لكن لما قرأنا في الفلسفة حذرونا بتوع الفلسفة من نوع واحد نمرود لعبي وخطير زي التعالب، السفسطائيين، بتوع حنجل ومنجل ولعب على الكلام وفي القلوب، في البداية تبدو الأمور خطيرة، ويبدو أن قاربك هيتقلب، لكن بعد فترة من الإبحار بتكتشف أنه ممكن تلتمس بعض الهدوء في صورة تعكير صفو! وبعض السلام في صورة رقص!</p><p><span style="color:#FF0000;">إيه الكلام العجيب ده يا عم المجنون ؟</span></p><p>خلينا نبدأ من الصفر ..</p><p>في عز الانهيارات الاقتصادية والمشكلات السياسية والمجتمعية، زي اللي عندنا كده دلوقت، بيظهر التشكك كمنهج رئيسي لمجموعة من الناس اللي بتحاول تفكر في سبيل للخروج من الأزمة الشخصيىة اللي وقعوا فيها، <span style="color:#FF0000;">أنا تعبان وتايه دلوقت أعمل ايه؟</span></p><p>بيظهر التشكك في البداية نتيجة لعملية الانهيار المجنون للنماذج اللي اتعودنا على أنها مقدسة، الرئيس، الملك، المذيع اللي كنا بنحبه، الممثل اللي نموذج للشباب، الشيخ العلامة... الخ.</p><p>بعدها بتتطور الأمور وتروح للمبادئ والقيم والثوابت ومدى كونها صح أو غلط دلوقت وقبل كده، ومدى جدواها أو فايدتها في خلق حياة سعيدة لينا بعدها، وفي النهاية، بتطور الأمور لأنها تبقى تشكك في كل شيء.. تشكك مذهبي.. يعني التشكك كأسلوب حياة، وبيتبني منهج هدفه الهدم، هدم القيم المعروفة، الثوابت والبديهيات المألوفة، المثل والنماذج البالية، هدم فكرة الدولة القائمة على سلطة فرد بعينه والدعوة للاهتمام أكتر بسُلطة الفرد في المجتمع.</p><p>مع استمرار القذارة المجتمعية، الفقر والجهل والنفسيات المتدنية في كل أقطار البلاد، بيفقد المتشككين دول ثقتهم في كل المناهج الممكنة، لأن مفيش حد أنقذنا، مفيش منهج نفع، الحقيقة بدراستك لتاريخ العالم هتتعلم أن كل المناهج، كلها، كل الفلسفات والنظريات، تم هدمها، كل فلسفة ظهر ليها نقد، كل نظرية ظهر ليها مضاد، كل سياسة إدارية فشلت في تكوين دولة جيدة أبدية، كل ما صعد يجب أن يهبط، كل نظرية تفقد رونقها، كل عمل وسخ في هذا العالم تم تبريره ومنطقته وفلسفته وإيجاد دلائل علمية على درجة من درجات صحته.</p><p>مجرد أني  قلت كلمة "قذر" أساسا هو شيء مردود عليه مسبقًا وتمت مهاجمته مليون مرة قبل كده من مليون فيلسوف واتهامي مسبقًا بأني بطلق أحكام فارغة على شيء لا أدرك فعليًا جوهره!</p><p>كل منطق وكل فلسفة وكل تيار وكل اتجاه اعتنقته أو بتعتنقه أو هتعتنقه دافع عنه فلاسفة كبار وهاجموه فلاسفة كبار، تم تبرير القتل، الخيانة، النفعية، اللاأخلاقية، السادية، اللذة، الرهبنة..الخ.</p><p>كل شيء في هذا العالم تم تبريره ووضعه في إطار منطقي أو فلسفي، وفي المقابل تم ضحده بكتب ومقالات بنفس عدد الكتب والمقالات اللي اتكتبت لتأييده، لذلك - وفي النهاية المؤسفة لهذا الفيلم المرعب – هتلاقي أنه مفيش قاعدة حقيقية واحدة مطلقة قدرنا نوصل ليها ونحط رجلينا عليها ونرفع إيدينا ونقول: وجدتها، إحنا لازلنا تائهين مرعوبين من المجهول زي أبطال فيلم The Hills Have Eyes مثلا، إحنا وحيدين في هذا الوجود، في النهاية لا يوجد معنى حقيقي لكونك علموي، وصولي، اشتراكي، رأسمالي، وضعي، لا حتمي، حتمي، متدين، ملحد، لا أدري، ملبيّاتي، فول سوداني، أو حتى صومالي.<br /> <br />من هنا، و مع عدم قدرة النظام – السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي - على خلق فكرة أخلاقية جيدة ثابتة - لأن مفيش فكرة اخلاقية واحدة ممكن نتفق عليها أصلاً -  ولأن الفساد مستمر بيعم أرجاء العالم من حواليك، ولأن الجهل بيضرب اللغة في مقتل وبيضرب الإدراك، بنفقد القدرة على التواصل مع بعض، وده بيخللي كل إنسان يبص لكل شيء من ناحيته، العالم بيبقى نسبي، بتختلف الآراء وبتتشتت، وكل واحد بيلزمه الجهل الحالي بوجهة نظره هو بس, بيعميه عن رؤية الآخر والعالم ككل.</p><p> في النهاية مش هيبقى ليك غير شيء واحد تعتمد عليه بعد سقوط كل مذهب ورأي ووجهة نظر، بعد إدراكك أنه حتى عقلك أنت قابل للتلاعب بيه من قبل الدولة أو الظروف أو البؤس، بعد إدراكك أنه يمكن إعطاء رأيين متناقضين مقنعين في الموضوع الواحد، وأن الحقائق نسبية وليها علاقة بالمجتمع، بعد تأكدك أنه "إذا كان الجميع على خطأ فلا أحد على صواب، وأن كان على صواب"، بيفضل شيء واحد بس تعتمد عليه، هو الإنسان، ومن هنا بتنشأ جواك فكرة أن "الإنسان معيار لكل شيء"، أن كل واحد حر، لأن الإنسان - فيما يبدو - هو اللي بياخد القرار في أي شيء - أي شيء - و يعطيه صورته، وحقيقته، ويقول هو مفيد أو لأ بالنسبه ليه، كل حقيقة هي حقيقة لأن اللي عاوزينها "حقيقة" شايفنها حقيقة.. لكن ده بالنسبة ليهم، مفيش شيء مطلق.</p><p>"الإنسان هو المقياس لكل الأشياء: الكائنة أن تكون، وغير الكائنة ألا تكون" بروتاجوراس<br />" لا شيء يوجد بذاته، ولكن كل شيء ينشأ من علاقته بشيء ما" بروتاجوراس</p><p>التشكك مش مرادف للفوضى، زي ما بيتصور البعض، أو زي ما النظام بطبعه بيؤمن، لكن التشكك هو نتيجة للفوضى، السفسطائي بيقبل بالواقع الحالي: "إذا كانت الحياة فوضى والنظام القائم من حوالي فوضوي فها أنا ذا أقبل بالأمر، أنا ابن الفترة الزمنية دي وابن الهزيمة والفوضى وهحل مشاكلي بنفسي".</p><p>لكن الميزة هي أن التشكك نتيجة موجبة للفوضى، اتجاه إيجابي في التعامل مع الأزمة المجتمعية بعكس الاتجاه السلبي اللي بيتشائم عملياً، لكن المتشكك هيبني من نقطة الهدم، هيقدم محاولة تقدمية لحل مشكلة الفوضى، محاولة لهدم النظام الاجتماعي الفاسد القائم اللي كده كده مهدوم واستعجال لسقوطه بقيمه بأخلاقه البالية ببابا غنوجه بسلاطاته - اللي كده كده هتسقط - فبنجيب فاس التشكك ونكسر كل القيم اللي اتربينا عليها على مدى سنين طوال كشعب غلبان.</p><p>لذلك اتهام المتشككين بأنهم ضد القيم والأخلاق هو فعلاً اتهام صحيح, لكن..<span style="color:#FF0000;"> إيه هي القيم والأخلاق غير موضوعات تعبير كتبناها ف امتحان عربي؟ اختراع مثلاً ؟</span></p><p>ليه متكونش القيم هي موضوعات قابلة للتشكك والتساؤل عن إمكاناتها ومدى كونها صاحبة سلطة على البشر؟</p><p>بشكل عام خلونا نقول إن لوي عنق الحقائق علشان تحقيق فعل الخير هو أكبر جريمة في تاريخ البشرية، وده اللي عمله أفلاطون، وده اللي تم استغلاله مرة تلو الأخرى والنتيجة دايما كانت كلمة واحدة "الديكتاتورية"، الديكتاتور غالبا ما بيبدأ شغله بتصفية الفساد بطرق غير قانونية أو شرعية وسط تأييد شعبي جارف ولوي لعنق الحقائق والإنسانية بدعوى أن مش مشكلة طالما بنعمل خير، بعد كده بيستخدم نفس الطريقة مع جميع المعارضين بدعوى أنه من الخير حفظ الاستقرار، وهنا بتكتسب القيمة سلطة على الإنسان، واحدة بواحدة بيبقى موضوع زي "الخير" هوا أمر لا يمكن التساؤل عنه ولا التشكيك فيه ولا في آلياته ولا أي حاجه، من هنا بيبقى "الخير" هو "الشر " بعينه.</p><p>كل قيمة لازم تكون خاضعة لتساؤلاتنا كبشر، القيم ممكن تكون قوالب اخترعناها علشان نحبس نفسنا فيها، سجون اسمها القيم .. الأخلاق .. اللي المفروض يحصل .. الصح هوا كذا و كذا وكذا .. خلينا نسأل نفسنا دايما السؤال المهم:<span style="color:#FF0000;"> يعني إيه "أخلاقي"؟ و بيتعمل إزاي؟ وليه معيار محدد؟.</span></p><p>التشكك مش مرادف للعب بالكلام، ولكنه استخدام اللغة والعلوم لضرب بعضها، وإثبات أن أي مبدأ يمكن هدمه، وأن أي فكرة ليها مضاد، وأن أي كيان ليه كيان آخر بيفكر بطريقة تانية، وأن مفيش صح مطلق، ولا غلط مطلق، ولا أي مطلق، الصواب والخطأ مش موجودين غير في عقول اللي بيظنوا أنه ده صواب وده خطأ، لذلك تم اتهام السفسطائيين أنهم مجادلين على الفاضي، وأن تقديرهم لأهمية الجدل ودعمهم ليه هو أكبر دليل على كده، والكلام ده صحيح فعلاً.</p><p>السفسطة بتمجد الجدل، لكن مش على الفاضي، لأن الجدل هو روح العالم، والسكون هو قتل الروح دي، أول ناس وقفو لمدينة أفلاطون الفاضلة بعنصريتها القميئة كانوا السفسطائيين، أول ناس وقفوا ضد القومية كانوا السفسطائيين، أول ناس كانوا ضد التزمت في التقاليد كانوا السفسطائيين، روح التشكك اللي بتتسرب من خلالهم لهز كيان العالم مش هدفها الهدم بقدر ما هدفها صنع الاتزان.</p><p>التشكك هو – إذن - محاولة لإيجاد حلول حقيقية لمشكلة دائمة، الثبات الممل المقرف اللي قتل المجتمعات، محاولة للمواجهة في الوقت اللي الجميع بيحاولوا يهربوا فيه، محاولة للتفكير في ظل سيطرة المشاعر، محاولة للإجابة بـ "لا" من أجل "نعم" بعيدة ممكنة أو غير ممكنة .. التشكك محاولة في حد ذاته !</p><p>السفسطائي ضد القومية والدولة الدينية وبيتخطاهم للتفاعل مع الجنس البشري ككل بدعوة حقيقية للتفاعل، وضد الحكومات ومحاولتها السيطرة على اتجاهات الشعوب، وضد محاولة فرض القانون بالقوة على الناس، لذلك هتلاقي أنه التشكك هو التيار المهزوم في كل الحروب لسببين: لأن الجميع ضدك، القوميين ضدك لأنك مع التحرر من خطط القومية، والدينيين ضدك لأنك مع التشكك في كل شي ولا تستثني أحداً، بتوع العلم ضدك لأنك شايف أن العلم طريقة لرؤية الأمور لكنه مش طريقة مطلقة، بتوع الفن ضدك لأنك بتتشكك لما تبقى مش فاهم طلاسم الحداثيين وبتحط افتراض صغير أنهم ممكن يكونوا بيضحكوا عليك، ورجال الدولة ضدك لأنك ضد السيطرة، والناس ضدك لأنك ضد ما يعتقدون انه استقرار، في حين أنه مش استقرار.. لكنه توتر حقيقي قاتل.</p><p>المتشكك هو شخص متشكك في ذاته قبل تشككه في النظم والفلسفات.. مش بيتخذ منهج ويعتبر أنه ده هو المنهج الصحيج وش غصب عن التخين، المتشكك في المواجهة بيكون ضعيف، متراجع، بيعرض آراء وضدها، التشكك تناقض، <span style="color:#FF0000;">وهو فيه شيء في العالم مش متناقض؟</span></p><p> أظن أن العالم أساسًا مبني على التناقض، ومن غيره منعرفش نعيش! التناقض الدائم سببه مراجعة الذات بشكل دائم والتماس الحلول في افكار معينة ثم إنكارها.. وهنا التشكك بيساعد الإنسان أنه يبقى أكثر وعيًا بذاته.. لأن الإنسان هنا بيبقى أكبر ناقد لذاته, أكبر مراجع لأفكاره هو.</p><p>خلينا – في النهاية – نستنتج أن السفسطائي هو محاولة للتحرر.. محاولة للبناء في صورة هدم.. محاولة للكتابة من جديد في صورة محو.. محاولة للهروب في شكل هجوم.. محاولة لوضع قيم في شكل فاس كبير لضرب القيم.. محاولة لجمع الأضداد معًا.. السفسطائيون بيظهروا في أثناء الأزمات.. وبيختفوا بعدها.. وده لأن دورهم هو دعم المزيد من التشكك.. التشكك اللي بيولد طاقة للبناء من جديد.. التشكك مش عقلانية.. لكنه هو  سلفها المشترك!</p><p>بعض المراجع:<br />تاريخ الفلسفة الغربية – برتراند راسل<br />الانسان هو المقياس – روبين آبيل<br />التاريخ و كيف يفسرونه – ألبان جريجوري ويدجري<br />الموسوعة الفلسفية المختصرة – جوناثان ري / وج.أو. أرمسون<br />المدينة الفاضلة عبر التاريخ – ماريا لويزا برشيري</p>